زهير هواري
بيروت 19 تشرين الثاني 2024 ـ بيروت الحرية
يعمل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على هندسة السياسة في إسرائيل بما يضمن له البقاء مبدئياً حتى خريف العام 2026 موعد الانتخابات النيابية المقبلة، هذا الا اذا حدثت مفاجآت ليست في الحسبان. ولعل الخطوة التي أقدم عليها نتنياهو في إقالة وزير الأمن يواف غالانت تصب في هذا الاطار. ففي الخامس من تشرين الثاني الجاري حين كانت أميركا ومعها العالم منشغلين بالانتخابات الأميركية ضرب ضربته التي تأخرت كثيرا، خصوصا وأن نتائجها جاءت لتصب الماء في طاحونته من خلال فوز “صديقه” القديم – الجديد دونالد ترامب وحزبه الجمهوري. والاطاحة بغالانت كان طموحا دائما لنتنياهو الذي لم يتمكن خلال الأشهر الماضية من تحقيقه، بالنظر إلى العلاقات المتينة التي تربط غالانت بالإدارة الأميركية. وهي العلاقات التي لم تمنع نتنياهو من تعطيل زيارته الأخيرة للولايات المتحدة. والخلافات بين الرجلين قديمة وتعود إلى العام 2022 وتتعلق بالقوانين التي حاول نتنياهو تمريرها، بما يؤدي عمليا إلى تجاوز الاعتراضات التي كانت تنتصب في مواجهته في كل من الإدارتين العسكرية والقضائية، ما يقود إلى تعزيز سلطته على حساب المؤسستين مجتمعتين ومنفردتين.
على أن نتنياهو لم ينجح قبلاً في تحقيق طموحه هذا، بفعل عوامل متداخلة من بينها موقف الإدارة الأميركية التي اعتبرت غالانت شخصا مقربا منها وقريبا من رؤيتها للوضع السياسي في إسرائيل والمنطقة على حد سواء. ما دفعها إلى تكريس العلاقة معه من خلال الاتصالات التي كان يجريها دوما مع وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن وأركان البنتاغون. وقد حاولت هذه الإدارة من خلال غالانت تقليص وزن الوزيرين المتطرفين كل من وزير المال بتسلئيل سموترتش ووزير الأمن القومي ايتمار بن غفير. ومن المعروف أنه وعلى الرغم من التوافق على ضرورة القضاء على حماس بعد عملية طوفان الأقصى بين التيارات الإسرائيلية، والشروع في شن حرب الإبادة على القطاع، إلا أن خلافات حقيقية كانت مندلعة باستمرار بينهما. فقد كانت رؤية غالانت أقرب إلى رؤية الجيش والأجهزة الأمنية من رؤية نتنياهو وسموتريتش وبن غفير وأمثالهم، ما قاد إلى حال من القطيعة بينهما. وما ضاعف من المسافة التي تفصلهما أن غالانت رفض الانجرار وراء نتنياهو وأقصى اليمين الديني إزاء قضية تجنيد طلاب الحريديم. فقد رفض غالانت تمديد إعفاء طلاب المدارس الدينية من الخدمة العسكرية. وقد تفاقمت خلافاتهما بشأن قضايا عديدة متعلقة بالحرب، اتخذ فيها غالانت مواقف تنسجم مع مواقف المؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية وتتعارض مع مواقف نتنياهو. ومنذ عدّة أشهر أخذت تتردد مواقيت تتحدث عن موعد التخلص من غالانت، وإبعاده ليس فقط عن وزارة الأمن، بل عن الحكومة من أساسها. العائق الثاني الذي انتصب في مواجهة نتنياهو يتمثل في التظاهرات التي شهدتها تل ابيب والمدن الاسرائيلية احتجاجا على إلحاق القضاء بالسلطة السياسية ممثلة بشخصه كرئيس للحكومة، بهدف التخلص من الدعاوى الأربعة المرفوعة عليه، والتي لم ينقذه من جلساتها سوى حال الحرب المندلعة منذ أكثر من عام على جبهتي حماس في قطاع غزة ومع حزب الله في جنوب لبنان. وهي الحرب التي يعمد هو أكثر من أي متطرف آخر في الكيان على صب المزيد من الزيت عليها، بما يكفل تأجيل انعقاد جلسات محاكمته باستمرار، وبالتالي افلاته من الوقوع في مصيدة أحكام لا مجال راهن الآن على التأثير عليها، إن لم يكن العكس.
وليس من قبيل الصدف أن يتولى نتنياهو يوم 5 تشرين الثاني بالتحديد إقالة غالانت وتعيين وزير الخارجية إسرائيل كاتس مكانه بينما عيّن ساعر وزيراً للخارجية. ما يعني أن نتنياهو نجح في توسيع اطار الائتلاف الحكومي عبر ضم وزيرين إلى الحكومة، هما إضافة إلى ساعر الذي تولى منصب وزير الخارجية، وزير المالية زئيف الكين، وأن يكون المسؤول عن إعادة إعمار منطقة شمال إسرائيل المحاذية للبنان ومنطقة غلاف قطاع غزة في جنوب إسرائيل. وكلاهما سيكون له مقعد في الكابينيت السياسي – الأمني. على أن الأكثر إثارة من إشغال هؤلاء الثلاثة لمناصبهم الوزارية الاتفاق الذي تم التوصل إليه، والقاضي بعدم سَنّ أيّ قانونٍ أساسٍ في الكنيست أو تعديله، إلا باتفاق جميع رؤساء كُتل الائتلاف الحكومي. وأن لحزب اليمين الرسمي حرية التصويت في القضايا المرتبطة بالمنظومة القضائية.
يقدم كل من نتنياهو وغالانت قراءتهما لما آلت إليه العلاقات بينهما وانتهت إلى ما انتهت إليه من قطيعة وإقالة. فالاول يعتبر أن فقدان الثقة المتبادلة مرده ظهور خلافات دائمة بينهما تتعلق بالحرب المعلنة على قطاع غزة ولبنان، وخلالها كان غالانت يدلي بتصريحات تتناقض مع قرارات الحكومة وما تتفق عليه من قرارات. والمسيء أن هذه التصريحات لم تظل ضمن الدوائر المغلقة، إذ سرعان ما تسربت إلى الجمهور وإلى الصحافة واستفاد منها الأعداء الذين ظنوا أن أن الموقف الاسرائيلي يفتقد إلى التماسك والصلابة المطلوبة وسط “حرب وجود ” على عدة جبهات. إذن برّر نتنياهو إقالة غالانت بفقدان الثقة بينهما، وظهور خلافات بشأن الحرب على قطاع غزة، أما غالانت فيعتبر أسباب إقالته الرئيسية ثلاثة هي: أولاً، معارضته سَنّ القانون الذي يتيح للحريديم التهرب من الخدمة العسكرية. ثانياً، موقفه الملتزم بإعادة المحتجزين الإسرائيليين لدى حماس، وقناعته بإمكانية عَقد صفقة لتبادل الأسرى، وهو أمرٌ يستدعي إنهاء الحرب. ثالثاً، مطالبته بتشكيل لجنة رسمية للتحقيق في الفشل والتقصير اللذين حصلَا في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 ، ومحاسبة المسؤولين عن النتائج التي قادت إليها. هذه القراءة السياسية لكل من طرفي الصراع تظهر وعلى نحو جلي أن نتنياهو عبر قراره بإبعاد غالانت ارتاح من عنصر شغب على الانسجام السياسي لحكومته التي يديرها، حول قضايا حساسة وذات تأثير على الرأي العام الإسرائيلي من وزون ما يشهده قطاع غزة من حرب إبادة لا تبقي ولا تذر، وقضية الاسرى الإسرائيليين، والحؤول من جانب نتنياهو دون عقد صفقة لاطلاق سراحهم ، بدليل دوامة المفاوضات التي ما إن تتقدم خطوة حتى تعود خطوات إلى الوراء.
رغم التقدم الذي حققه نتنياهو إلا أن ما كشفت عنه وسائل إعلام إسرائيلية النقاب، حول تورط بعض موظفي مكتب رئيس الحكومة في قضايا جنائية من أجل مساعدة نتنياهو في صراعه مع المؤسسة العسكرية والأمنية من شأنه أن يشد الحبل على رقبته. فقد تبين أن هناك عدة قضايا تجمع على إدانته. تتعلق القضية الأولى منها بمحاولة تغيير وثائق محاضر اجتماعات القيادتين السياسية والعسكرية الإسرائيلية، التي عُقدت في بداية الحرب على غزة، لتتناسب مع رواية نتنياهو قبل أن تطّلع عليها أيّ لجنة من لجان التحقيق. في حين أن الثانية تظهر أنّ موظفين في مكتب رئيس الحكومة ابتزّوا ضابط الاتصال في الجيش الإسرائيلي، من أجل تحصيل وثائق عسكرية سرّية ذات حساسية لمصلحة مكتب رئيس الحكومة نتنياهو؛ بنيّة استعمالها في الصراع الدائر بين نتنياهو والمؤسسة العسكرية والأمنية. أما الثالثة، فتتعلق بتسريب ناطق سابق في مكتب رئيس الحكومة، يدعى إيلي فلدشتاين، معلوماتٍ استخبارية مرتبطة بأمن الدولة، وهي ذات حساسية أيضًا، إلى وسائل إعلام أجنبية، بعد التلاعب بها على نحو يعزز موقف نتنياهو ويبرّئه من إفشال صفقة تبادل الأسرى مع حركة حماس. وقد اعتقلت المخابرات العامة الإسرائيلية فلدشتاين، وضابطين يعملان في القسم المسؤول عن المعلومات في شعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي بشبهة سرقة وثائق، فيها معلومات ذات حساسية وتسليمها لفلدشتاين.
يمكن القول إن ما حققه نتنياهو عاد وخسره على نحو ما من خلال القضايا المطروحة حول هذه السلوكيات التي شهدها مكتبه، والذي قد يكون هو دون سواه من أوحى بها، بهدف دعم مواقفه حول مجمل قضايا الحرب، وما تمخض عنها من سياسات ومواقف. إذن يمكن القول إن نتنياهو يطمح إلى الحصول على إجماع حكومي على سياسته إزاء القضية الفلسطينية، لا سيما حول ما يتناول كلا من قطاع غزة والضفة الغربية على السواء، ودون أن يبتعد أي من مكوناتها قيد أنملة عما يقرره هو بنفسه، لذلك يمكن القول إن ما أعلنه الوزير سموتريتش خلال جلسة الكتلة البرلمانية لحزبه، لجهة العمل على ضم الضفة الغربية المحتلة و فرض السيادة الإسرائيلية عليها قد بدأ. معلناً أن عام 2025 هو “عام السيادة على الضفة” مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، هو موقف حزب الليكود ونتنياهو نفسه. وبما يذكر بمحتويات صفقة القرن التي أعلنها صهره جاريد كوشنير، فضلا عن التصريح الذي أدلى به ومضمونه أن ارض إسرائيل ضيقة ولا بد من توسيعها. وبديهي أن ينطلق ذلك من الضفة الغربية وقطاع غزة حيث تتصاعد احاديث العودة إلى احتلاله وبناء مستوطنات عليه.
وقد أثار هذا التصريح ردود فعل دولية من جانب الاتحاد الأوروبي وقمة الدول العربية والإسلامية وغيرهما باعتبار أن أقل ما يقال فيه أنه يقوض القانون الدولي من أساسه الذي يمنع الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة المسلحة وبما ينسف هذا القانون، ومعه حل الدولتين التي يرفض اليمين الصهيوني بأجنحته المتعددة الاعتراف بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس. ويعمل على إعادة احتلالها ويحاول طرد سكانها وتهويدها. وقد استدعت تصريحات سموتريتش إدانة سريعة من السلطة الفلسطينية، التي وصفتها وزارة خارجيتها بأنها “امتداد استعماري وعنصري صارخ لحملة الإبادة والتهجير القسري المستمرة ضد الشعب الفلسطيني. أما المتحدث باسم رئاسة السلطة الفلسطينية نبيل أبو ردينة، فاعتبرها تؤكد على “نية الحكومة الإسرائيلية استكمال خططها للسيطرة على الضفة الغربية بحلول 2025”. وأضاف أنه يحمل “سلطات الاحتلال الإسرائيلي والإدارة الأميركية مسؤولية السماح لإسرائيل بالاستمرار في جرائمها وعدوانها وتحدي الشرعية الدولية والقانون الدولي”. أما فيما يخص القضايا التي تقسم المجتمع الإسرائيلي وتدفع بأقسام منه للتعبير عن غضبها والتي تشمل المحتجزين الإسرائيليين، والانقلاب القضائي، والموقف من تشكيل لجنة تحقيق رسمية فهذه ستستمر في الحضور الصاخب، علما أن نتنياهو سيفيد من وجود ترامب للحفاظ على تماسك التحالف اليميني الذي يقوده، مع بقائه ممسكا بزمام السلطة مستندا إلى ضعف المعارضة واكتفاء المجتمع الدولي ببيانات الشجب والإدانة التي لا توقف حروب إبادة ولا تعيد حقوقا فلسطينية.
Leave a Comment