ثقافة صحف وآراء

منشيّة بعلبك تُبعث من ركامها…والدولة مُطالبة باستنهاض المانحين

*محمد شرف

كانت ضربة قاسية تلقّتها مدينة بعلبك، الأربعاء 6 تشرين الثاني 2024، حين قصف العدو الإسرائيلي مبنى “المنشية” الأثري، الواقع بمحاذاة هياكل بعلبك، قبالة فندق بالميرا الشهير، تفصله أمتار عمّا يسمّى “بستان الخان” الذي يُرجح البعض أنه كان سوقاً رومانياً، في حين يقول البعض الآخر أنه كان مسرحاً من الحقبة الرومانية.

لم يصدّق الأهالي، للوهلة الأولى، ما حدث في تلك اللحظة، كون المناطق الأثرية كانت محيّدة، من حيث المبدأ، عن مسرح العمليات العسكرية. لكن المبدأ المذكور لم تأخذه إسرائيل في الاعتبار، كما هي عادتها، فاستهدفت سيارة متوقفة إلى الجهة الشمالية من المبنى على بُعد أمتار قليلة منه، ما أدّى إلى دماره كلياً، نظراً إلى قوّة الانفجار الناتج عن صاروخ ثقيل.

توافد سكان المدينة، يوم الخميس 7 تشرين الثاني، إلى المكان، وكانت سبقتهم إلى هناك وكالات صحافية ووسائل إعلام لمعاينة ما جرى. كانوا كمن يقف على الأطلال، شأنهم شأن شعراء العصر الجاهلي، المتباكين في ذلك الزمن على مكان نزلت فيه الحبيبة، قبل أن ترفع قبيلتها الخِيام، وترحل إلى بقعة أخرى أوفر ماءً وظلالاً من سابقتها، وبعيدة من الحبيب الملهوف.

تصوّر الكثيرون، وكانوا مُحقّين في تصوّرهم، أن المبنى المدمّر الذي يشكّل جزءاً من الذاكرة البعلبكية، سيبقى على حالته المثيرة للحسرة والحزن لوقت طويل، بعدما علّمتهم التجارب أن الأمور تسير دائماً في هذا البلد بسرعة سلحفاة غير مستعجلة. لكن هذه العادة خُرقت هذه المرّة، بجهد شخصي قام به حارث حيدر، نجل الكاتب والشاعر المعروف لطفي حيدر، وهو الذي شغل المبنى لعقود، بعدما حوّله مساحة لعرض التصاميم والمنتجات التراثية من الطراز الرفيع، تحت مسمى “أصيلة”.  إلى ذلك، أُوكلت إلى المهندس البعلبكي خالد صلح مهمة الإشراف على عملية إعادة البناء، ومتابعة مجرياتها، إذ لا يمكن وصف المشروع بعملية ترميم عادية، كما يحدث في بعض الأحيان في المباني المتضررة جزئياً بفعل الحرب. بل يجري الحديث هنا عن مشروع متكامل يهدف إلى إعادة المنشية إلى ما كانت عليه قبل أن تمتد إليها يد العدوان.

المبنى، الذي شُيد العام 1928، تحوّل، كما سبق ذِكره، كومة من الركام اختلط فيها التراب والقضبان الحديدية بالحجارة. لكن، وبما أن الضربة المشؤومة لم تأتِ في وسطه، “لحسن الحظ”، فقد بقيت سليمةً أعدادٌ وافرة من حجارته الكلسية القديمة. تضمن الجزء الأول من مشروع البناء الجديد، جمع حجارة ذات مقاسات محددة في صفوف تحتل الآن المساحة الترابية المحيطة بالبناء، التي سُيّجت بسور مؤقت مرتفع ومقفل من الجهات كافة، كما في مشاريع البناء في شكل عام، مع ترك بوابة للعبور تقفل بدورها بعد انتهاء دوام العمل.

ومن الملاحظ أن عملية البناء-الترميم تتم بشكل محترف. يتم قياس كل حجر ليوضع ضمن أمثاله، مع الأخذ في الاعتبار أن الحجارة السليمة يتم فصلها عن تلك التي لحقت بها أضرار متفاوتة من حيث الحدّة والحجم. المرحلة الأولى من هذه المهم الهادفة تتمثل في انتشال الحجارة من بين الركام، الأمر الذي تبين أنه ليست على ذاك القدر من السهولة. فاستعمال الآليات، كالجرافات وسواها، غير مستحب، إذا لم يكن ممنوعاً تماماً. فيتم الخوض في الركام بواسطة المعاول والمجارف الصغيرة بانتباه شديد، ما يُذكرنا بالتقنية المتّبعة في علم الآثار، وتحديداً في عمليات التنقيب التي يقوم بها اختصاصيون متمرسون خلال البحث عن الآثار القديمة، من دون إيذاء ما يمكن أن يكون مطموراً منها في الأرض.

حين سألنا المهندس المشرف عن الوقت الذي يمكن ان يستغرقه المشروع، لم يكن في إمكانه الإجابة عن هذا السؤال. انتشال الحجارة قد يستمر شهوراً (إضافة إلى لملمة الأجزاء الحديدية المزخرفة)، وذلك من أجل الوصول أولاً إلى أساس المبنى في المرحلة الأولى المذكورة، قبل أن تبدأ عملية البناء الفعلية. ولا ريب في أن هذا المشروع، المعقّد وشبه الفريد من نوعه، سيكون باهظ الكلفة، وليس في إمكان جهة واحدة أن تتحمّلها. لذا، تقع على عاتق وزارة الثقافة ومديرية الآثار مهمة الاستعانة بجهات محلية ودولية من أجل تأمين الموارد اللازمة لإعادة المنشية إلى سابق عهدها، كي تكون مثالاً على الإصرار والمثابرة الهادفين إلى إحياء أحد رموز المكان، العابق بمنجزات معمارية، تعود إلى عصور تاريخية عديدة، وتمثل وجهاً أساسياً من تراث المدينة وشهرتها… وصمودها.

*نشرت في المدن الالكترونية يوم الأربعاء 2025/06/11