زكـي طـه
بيروت 29 تشرين الاول 2025 ـ بيروت الحرية
فيما يواجه لبنان أصعب مراحل وجوده السياسي والاقتصادي والأمني، تتصرف أكثرية قوى السلطة كما لو أن البلاد في منأى عن الخطر. فالمشهد السياسي الداخلي يبدو منفصلاً عن الواقع الميداني المشتعل في الجنوب وصولاً إلى البقاع، وسط تجاهل شبه تام لتصاعد الشروط والتهديدات الاسرائيلية، وارتفاع وتيرة الضغوط الخارجية التي تقودها الإدارة الاميركية على نحو غير مسبوق. وبذلك تبدو السيطرة العسكرية الشاملة وما يقع في امتدادها، وكأنها تفصيل عابر في مشهد سياسي مأزوم. هذا ما يشي به أداء أكثرية القوى السياسية المشغولة بصراعاتها الفئوية حول قانون الانتخابات النيابية، وكأن مصير الكيان والدولة آخر ما يعنيها، وأن مصالح وحقوق اللبنانيين ليست أكثر من ورقة في معارك النفوذ والمحاصصة.
لا يعكس هذا الاستخفاف الممنهج بالمخاطر انعدام المسؤولية الوطنية فقط، بل يُظهر عجز النظام الطائفي عن إنتاج موقف وطني موحد في مواجهة التحديات الوجودية. فبينما تُحذر التقارير الدولية والموفدون العرب من اقتراب المهلة المحددة لتنفيذ قرار حصر السلاح جنوب الليطاني، وما قد يسبق أو يستتبع ذلك من تصعيد عسكري واسع، لا تُبدي القوى السياسية أي استعداد جدي لمساعي توحيد الموقف اللبناني، أو بلورة رؤية للتعامل مع الضغوط والتهديدات على النحو الذي يحفظ المصلحة العليا للدولة.
تهديدات وضغوط
وفي موازاة التقارير الدبلوماسية والأمنية حول خطورة عدم تنفيذ الحكومة اللبنانية قرارها المتعلق بحصر السلاح، وما يحمله ذلك من احتمالات تصعيد ميداني واسع، تتسارع حركة الموفدين التي لا تكتفي بنقل التهديدات، بقدر ما تضغط على الحكم للدخول في مفاوضات مع اسرائيل وفق شروطها. لا يفتقد المشهد السياسي اللبناني مقاربة وطنية موحّدة أو خطة تفاوضية تحفظ المصلحة العليا للدولة فحسب، بل ينقسم بين طرفين رئيسيين: من جهة قوى وأحزاب طائفية تتعامل مع الخطر الذي يهدد لبنان، كمادة للمزايدة أو المقايضة السياسية، لأنها ترى في الضغوط الخارجية فرصة لتحسين مواقعها في السلطة، أو لتقليص نفوذ خصومها وتصفية الحساب معها، متعامية عن خطورة تصاعد الضغوط والعدوان، الذي سيؤدي في حالة حصوله، إلى تقويض ما تبقى من سيادة لبنان واستقلاله.
ومن جهة أخرى حزب الله الذي ينظر إلى المصلحة الوطنية من بوابة مصلحته الفئوية، وعبر البحث عن ضمانات استمرار مواقعه في السلطة، سواء عبر الرسائل غير المباشرة باتجاه الإدارة الاميركية، أو من خلال ارتباطه بسياسات النظام الايراني الذي يتعامل مع الساحة اللبنانية كورقة من أوراق التفاوض مع الإدارة الاميركية. لا يكتفي أمين عام الحزب بترداد مقولة رفض تسليم السلاح، بل يتعمد المبالغة في ادعاء إعادة بناء قوة الحزب المقاتلة، واستعادة قدرته على المواجهة، وكأن الاحتلال الاسرائيلي القائم وغاراته التدميرية وعمليات الاغتيال اليومية التي يتكفل الناطق باسمه اعلان نتائجها وعددها، لا تشكل عدواناً يستحق الرد أو انها تجري في بلد آخر.
في المقابل، يُواصل العدو الإسرائيلي تصعيده الميداني والسياسي بهدف فرض شروط تفاوض جديدة، لا مكان فيها لقواعد الاشتباك السابقة، أو القبول بعودة الوضع الذي كان سائدًا قبل حرب الإسناد. مستفيداً في ذلك من الموقف الأميركي الذي يتماهى بالكامل مع هذا الاتجاه، لأنه لا يضع “أمن إسرائيل” في صدارة أولوياته فقط، بل يتولى الدفع لفرض حل يبدأ بنزع سلاح حزب الله، وينتهي بتفاوض مباشر وفق موازين القوى المختلة الراهنة.
وعليه، يبدو لبنان امام طريق مسدود. فـ “حزب الله” يرفض أي تفاوض قبل انسحاب إسرائيل من المواقع التي تحتلها. والدولة اللبنانية تفتقر إلى موقف موحد ورؤية واضحة لإدارة استحقاق تنفيذ القرار 1701. والمحصلة التهديد بخروج لبنان من دائرة الاهتمام الدولي المرتبط بملف غزة ومستقبلها، وربطه بالملف الإيراني.
العجز وغياب الرؤية
وبنتيجة التداخل بين الولاءات الخارجية والانقسامات الداخلية، وامام السيطرة والتصعيد الاسرائيلي، يبقى لبنان في موقع العاجز عن التعامل مع الضغوط الخارجية، والفاقد للقدرة على الصمود في وجه العدوان استناداً لموقف موحد. وما يفاقم هذا العجز ادعاءات قادة حزب الله حول استعادة قدراته العسكرية، والاصرار على تحميل الدولة مسؤولية استمرار الاحتلال، ما يمنح إسرائيل الذريعة لمواصلة التصعيد والاغتيالات والتهديد بنزع السلاح بالقوة، والاستقواء بضغوط الإدارة الاميركية وما يحمله موفدوها من رسائل واقتراحات بانتظار المتغيّرات في الميدان والسياسة معاً.
في ظل هذا المشهد، يبدو أن المخاطر الوجودية التي تتهدد لبنان لا تجد من يتعامل معها على مستوى المسؤولية الوطنية. فبدلاً من أن يكون الخطر الإسرائيلي حافزًا للتوحد الوطني، تحوّل إلى فرصة لتبادل الاتهامات وتسعير الصراعات بين قوى السلطة على المواقع الطائفية، على النحو الذي يُعيد إنتاج الانقسام ويُعمّق تبعية وخضوع القرار اللبناني لمحاور الخارج.
معركة قانون الانتخابات
وسط هذا المشهد المأزوم، تخوض أحزاب الطوائف معركة ضارية لتعديل قانون الانتخابات النيابية، تحت عنوان صيغ التصويت في الخارج، من دون أي اعتبار لمبادئ الديمقراطية أو لحقوق المغتربين. والمعركة لا تدور حول سبل إصلاح النظام التمثيلي، بل على إعادة انتاج وتقاسم مواقع النفوذ باسم الطوائف. يؤكد ذلك أن معظم القوى السياسية تتعامل مع ملف تصويت المغتربين من زاوية حسابات الربح والخسارة الفئوية. وبينما يسعى كل من القوات اللبنانية” وحزب الكتائب إلى تعديل القانون طمعاً بزيادة حصتيهما من المقاعد المسيحية على حساب خصومهما، يتحصن التيار الوطني الحر” بتطبيق القانون الحالي وعلى حصر تصويت المغتربين بستة مقاعد موزعة طائفياً، وغايته الحد من تراجع عدد أعضاء كتلته النيابية. في المقابل يرفض الثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل) تعديل القانون بحجة صعوبة إدارة المعركة الانتخابية في الخارج، والهدف الحقيقي هو إبقاء السيطرة على التمثيل الشيعي وحصره بهما. وتبقى مواقف الكتل الأخرى، التي تحددها مصالحها وليس سواها.
من الواضح أن أداء سائر الاطراف يستند إلى نتائج انتخابات 2022، وإلى تداعيات الحرب الإسرائيلية على المزاج العام للمغتربين، وليس إلى مقاربة وطنية شاملة حول دور هؤلاء في الحياة السياسية اللبنانية.
حقوق المغتربين
وامام غياب الاطر الوطنية للمغتربين، ومصادرة النطق باسمهم من قبل فروع الاحزاب والتيارات الطائفية التي تتنازع السلطة في الوطن، لا يعود مستغرباً أن تُستخدم ورقة تصويتهم في صراعات داخلية لا تمتّ بصلة للديمقراطية أو لمفهوم المواطنة. فالقوى المتصارعة لا ترى في هؤلاء سوى أصوات انتخابية تُستغل لخدمة توازنات حزبية فئوية وطائفية في آن، وليس طاقات بشرية واقتصادية وثقافية وطنية قادرة على المساهمة في إعادة بناء الدولة. والاهم في المعركة هو تجاهل حقوقهم وقضاياهم في بلاد الاغتراب التي تسمى تضليلاً بلاد “الانتشار” للتعمية على اسباب ومتسببي الهجرة إليها.
وبدل أن تكون معركة قانون الانتخاب مناسبة لإطلاق نقاش وطني، حول تحديث النظام السياسي وترسيخ التمثيل الديمقراطي للبنانيين، أخذاً بنظر الاعتبار قضية المغتربين وحقوقهم، تحولت إلى ساحة لتبادل الاتهامات والتهديدات، وإعادة إنتاج الانقسام الطائفي الذي دمّر مؤسسات الدولة. والاهم في احتدام السجالات المتبادلة بين رئاسة المجلس وبعض قادة الاحزاب والنواب من كل الضفاف، أنه يعكس انحطاط الخطاب السياسي إلى مستوى النزاع على المواقع لا على المبادئ.
النتائج والمخاطر
في المحصلة، تُظهر هذه المعركة أن النظام الطائفي لا يزال عاجزاً عن إنتاج تسويات وطنية، أو مقاربات ديمقراطية لأي استحقاق، وأن الأولويات الفعلية والجوهرية للأحزاب الطائفية لا تتجاوز حساباتها الانتخابية الضيقة. أما مشروع إعادة بناء الدولة، فيبقى رهينة هذا الاشتباك، بين ضغوط الخارج وابتزاز الداخل، الأمر الذي يهدد بضياع الفرصة لإنقاذ لبنان وإعادة بناء مؤسساته على أسس وطنية جامعة.
إن تجاهل المخاطر المحدقة بالبلاد، والاستخفاف بالتصعيد الإسرائيلي المتواصل، والانغماس في معارك فئوية على حساب المصلحة الوطنية وحقوق اللبنانيين، ولا سيّما المغتربين منهم، هما دليل إضافي على عمق الأزمة البنيوية التي يعيشها النظام السياسي اللبناني، حيث تتحول رايات الديمقراطية والتوافق الوطني إلى ادوات للمحاصصة، والانتخابات إلى ساحة لتجديد الاصطفافات الفئوبة والولاءات الطائفية، فيما يبتعد مشروع الدولة أكثر فأكثر عن متناول اليد.
