محسن إبراهيم

محسن ابراهيم: قدر مثل شهوة السؤال والنقد وإعادة الخَلق

مارسيل خليفة*

لا أرى أفكاره وكتاباته باعتبارها توصيفاً ايديولوجياً أو سياسياً، بل أشعر بأنها موقف إنساني وحضاري في الحياة. واحتفظ بلحظات جميلة مع مفكّر لم يكف عن أن يكون قرين روحي. وربما ليس ثمّة رجل يمكن أن يكون أعمق من الرفيق “محسن” الذي كان متصلاً بأبعد تجربة إنسانية في العالم .

ذهب إلى المستقبل بالقدر الكافي من الحلم والحماسة والصدق ولم يكن يشعر بالهزيمة عندما لا يصل إلى المحطة .

حين يرّن اسمه في أذني، حين أتذكره، حين أستعيد شريط التفاصيل الحارة التي جمعتنا، أنتبه إلى غيابه الصارخ .

المكان الذي احتضنه “لبنان” فضاء ضيّق لعلاقات موروثة تتعهدها الذاكرة الجمعية للناس بالصيانة وإعادة الإنتاج وكأنها ماهيتهم التي دونها ليسوا يوجدون .

التنشئة التي يتبنّاها المرء في كل لبنان تقوم على تنمية الشعور بالانتماء إلى الجماعة الصغرى القائمة على العصبيّة. عصبيّة الدم وعصبية المذهب. لا يتحدّد المرء إلاّ في علاقته ببنية الجماعة الفرعيّة التي ينتسل من صلبها، وبعد ذلك يأتي انتماؤه إلى الوطن. عليه أن يكون مثلما أرادته القبيلة والطائفة والبلدة أن يكون. لا يملك اختيار كينونته أو ماهيته لأن هذه موجودة سلفاً قبل أن يولد .

يساهم نظام الدولة الطائفيّ – إلى جانب التنشئة العصبويّة، في إعادة إنتاج هذه العلاقات من التبعيّة التي تشد الأفراد إلى تكويناتهم العصبويّة – القَبَليَّة والعشائريّة والعائلية والطائفية والمذهبيّة – فتمنعهم من الانتظام في وطن جامع .

الدولة في لبنان على مثال الاجتماع الأهلي فيه: دولة عصبويّة، يجري تقاسم السلطة فيها على مقتضى طائفيّ. ليس في رحابها مواطنون متساوون أمام القانون لأن القانون مصمّم على أساس التمييز والتفاضل بينهم، بحيث يحق لبعضهم ما ليس يحق لسواهم. الأسوأ من ذلك أن الدولة ليست فقط مجرّد انعكاس ميكانيكي للبُنى الاجتماعيّة العصبوية وإنما – أيضاً – تعيد إنتاج وتكريس تلك البنى بتشريعاتها المكتوبة ومواثيقها الشفهيّة .

كان على المرء كي يكسر شرانق الانتماء إلى العصبيّة، ويطل على الوطن بما رحب ووسع أن يصطدم بالعصبية وبالدولة، بالاجتماع الأهلي وبالاجتماع السياسي على السواء. وكان عليه، أحياناً، أن يدفع غرامات باهظة في الاشتباك اليوميّ مع هذا الحلف غير المقدَّس بين العصبيّة والدولة .

ولعلّ “محسن ابراهيم” اليساري اللبناني الوطني الديمقراطي (غير الطائفيّ) أكبر المناضلين في هذه المعركة التي خيضت من أجل تحرير لبنان من أصفاد العلاقات العصبويّة – الطائفيّة في المجتمع والدولة .

كان الرفيق “محسن” يدافع عن حقّه – حقّنا في كينونة إنسانية أرقى تكسر قيد العصبية التقليدية، وتخرج إلى رحاب الوطن. كَبُرَ الطموح ولم يعد الوطن الصغير يسع المشروع الكبير. أخذته فكرة العروبة بعيداً، إلى كل نقطة وبقعة في أرضها الفسيحة. وذهب في حلم الأمميّة بعيداً دون أن ينسى الوطن الصغير والوطن الكبير. ودائماً كانت قضية فلسطين في نبض القلب .

مغامرة. لكنها تستحق أن تخاض لأنها المعنى العميق لكي نكون أحراراً، ولأن نكون ما نشاء لأنفسنا أن نكون.

نما التشابه مع كُثُرْ من أهل الوطن. وكلما كنت اقترب من “محسن ابراهيم” كنت أرى السياسي الذي يحاول استضافتي في لغته السياسية ومفردات خطابه. وكان سبباً للقائنا الذي لم ينقطع في لبنان وفي البلاد العربية وفي العالم .

يا “أبا خالد” أكتب لأعترف بأن الصداقة باقية والمحبة باقية، ولأقول لك أحببناك وأدمناك ولم ينجُ أحد من عدواك .

لم يكتب عربي لغة عربية أكثر بذخاً وأناقة من لغة “محسن ابراهيم” آفاق العمل الوطني . قلم فظيع . مثقف رفيع القيمة والثقافة .

ربما يكون أول سياسي عربي ضخّ اللغة العربية في النص السياسي. مقالاته بداية سبعينيات القرن الماضي وافتتاحياته في مجلة “الحريّة” تشهد على ذلك. اول كتاب بعمر ٢٢ سنة .

ألحقه “جورج حبش” و “وديع حدّاد” بقيادة حركة القوميين العرب. وَثَقَ به “جمال عبد الناصر” وكان يستمع إلى رأيه ويستشيره. قاد انعطاف سياسي في قاعدة الناصرية بسبب ” محسن ابراهيم “

“ياسر عرفات” لم يأخذ قراراته إلاّ في ما يُفتي به “محسن ابراهيم”. كان لمعة استثنائية في تاريخ المنطقة. ولقد أصرّ “كمال جنبلاط” أن يكون الرفيق “محسن” الأمين العام التنفيذي للمجلس المركزي للحركة الوطنية.

صاحب “نكتة” من الطراز الاول: بعد اغتيال “كمال جنبلاط” تولّى “وليد جنبلاط” رئيس الحركة، وفي أول زيارة له  إلى “ليبيا” رفقة محسن ابراهيم وجورج حاوي جلسوا في خيمة “العقيد”، وبدأ وليد بالتأفّف، فأسرّ محسن في أذن وليد: القرار سوري والتمويل ليبي. اشكر رَبّك تخيّل لو كان العكس .

وفي لقاء مع “عبد الحليم خدّام” كان محسن يُسَبِّح بمسبحة من الأحجار الكريمة. وضع المسبحة على الطاولة، مدّ يده “خدّام” ووضعها في جيبه فقال له: أخدتو لبنان وأخدتو بيروت، مسبحتي ما راح تاخدها مني .

أيها الغائب الحاضر

كَمَدْ موجع من الموت في وطننا. الموت بالفساد الذي يحدّق بنا .

المواطن الذي يمضي وحيداً، يبحث عن الخلاص او الهرب أو يحاول تجاوز ذاته في فوضى الرعب من مواجهة مشهد موته الخاص  ولحظات الصلب الأليمة .

ليس لهذا الخراب ملامحه لنكتبه. هو مثلما اتفق، هواء ملوّث باللا هواء، وقطيع من بهيم السلطة يهيم في لا نهايات النفق وفي تفاصيل الخراب تفاصيل لا يحدها مكان .

ما اكثر ما ضاق العالم هنا وما اكثر ما القلب ضاق .

نسأل: من أين الطريق؟!

قد يطول السؤال وتطول هذه الرحلة، ولكن سنستمر الى آخر  شهقة. نسير في الشوارع الثائرة لنولد من جديد.

يا رفيقي على قرميد ضريحك الحمام

وعلى جميل ذكراك السلام .

  • مارسيل خليفة ـ فنان لبناني ـ مؤلف موسيقي، ومغني وعازف عود

Leave a Comment