سياسة

محاصصة الانهيار المتسارع والانقاذ الصعب

كتب زكــي طـه

بين المهزلة والمأساة ينهي اللبنانيون عاماً كارثياً، في ما الطبقة السياسية المتسلطة على البلاد، تتابع  سجالاتها الرخيصة وتتبادل تهم التعطيل، للتغطية على رفضها تحمل مسؤولياتها انقاذاً للبنانيين من الانهيار الذي أوقعتهم به، ومن حالة الفوضى الكاملة التي تديرها، بعيداً عن أيّ ضوابط وطنية أو روادع دستورية – قانونية أو إنسانية، تقيّد أداء أطرافها.

يترافق الأمر مع تراكم ملفات الأزمات التي تعصف بالكيان والنظام معاً، وسط انغلاق المرجعيات الحاكمة على أي تسويات أو معالجات. والصيغة المعتمدة في متابعة إدارة الأزمات المترتبة عن الانهيار على المستويات كافة، هي إيغال قوى المنظومة الحاكمة في تصعيد صراعاتها، والاحتكام في ما بينها إلى سلاح الطائفية هجوماَ ودفاعاَ في آن، حماية لمواقعها في السلطة ولفسادها وتحللها من مسؤولياتها والقيام بواجباتها. 

سواء تعلق الأمر بتعطيل تشكيل الحكومة والتمديد للفراغ في السلطة التنفيذية إلى أمد غير منظور بذريعة الصلاحيات الدستورية بين رئيسي الجمهورية والرئيس المكلف، أو لناحية السعي لاغلاق ملف التحقيق بانفجار المرفأ وتضييع المسؤوليات عنه، بحجج عدم المس بموقع رئاسة الحكومة، وفصل السلطات بين المجلس النيابي والقضاء، لكف يده واستمرار استغلاله لتصفية الحسابات الفئوية. وذلك بالتزامن مع ضياع المسؤولية عن وقف تهريب السلع المدعومة إلى الخارج، والإمعان في عدم ترشيد الدعم وهدر بقايا الاحتياط المالي لتبرير مصادرة احتياطي أموال المودعين والتمهيد لتسييل احتياط الذهب. ما يعني أن الانهيار بلغ بمجمله مراحل متقدمة وقارب طور الاطباق الشامل، على حياة  اللبنانيين الذين يتقلبون على جمر الأزمات، دون أن يجدوا ما يخفف وطأة الرعب من مخاطرعبورهم النفق إلى جهنم.

ولأن الطرق مقفلة بين أطراف السلطة جميعاً، فإن التسويات والمخارج للأزمات سواء السياسية منها أو الاقتصادية، هي في حكم المؤجلة بانتظار ما ستؤول إليه أوضاع المنطقة. وذلك جراء الربط المحكم لأوضاع البلد بنتائج الصراع الدولي والاقليمي المحتدم على جميع جبهات  وساحات المنطقة. ولأن الإرتباط بات مكرساً بحكم الأمر الواقع، فإن الانتظار سيمتد بالحد الأدنى إلى ما بعد جلاء نتائج الاستحقاقات الانتخابية في ايران وسوريا والعراق، خلافاً لما يتصوره البعض الذي ينتظر تسلًم إدارة بايدن شؤون الحكم  والرئاسة في أميركا.

 والسبب مرده استمرار المواجهة بين إيران والولايات المتحدة واستحالة المعالجة  السريعة لملفاتها. إذ إنه بالإضافة إلى تعقيداتها وصعوباتها، فهي لا تقع في جدول أولويات الادارة الاميركية الجديدة. مما يعني أن أوان التسويات لأزمات المنطقة لا يزال غير مرئي راهناً، خاصة مع تقدم الدور التركي وتعدد جبهاته المتفجرة. وعليه ووفق ما أكدته نتائج المبادرة الفرنسية التي أستحال على أصحابها والمؤيدين لها ترجمتها ولو مؤقتاً، فإن انتظار اللبنانيين مرشح لأن يكون مؤلماً لهم، بالنظر لطبيعة مضاعفات الانهيار المتعدد الأوجه وكثرة المخاطر المدمرة، في ظل الفراغ القائم  على صعيد السلطة وشلل مؤسسات الدولة وأجهزتها ومرافقها المستباحة، الأمر الذي أدى إلى تجاهلها وتجاوزها في آن.

 وأمام تزايد سرعة الانهيار وتصاعد حدة اشتباكات أطراف السلطة واتساع حالة الفوضى العبثية السائدة راهناُ، وتشريع الوضع على شتى الاحتمالات. فإن شر البلية ما يُضحك، لأن أطراف الحكم المتحكمة بالبلاد، وجدت أن الوسيلة الأهم لتدجين قواعدها وإسكات المعترضين، والمخرج المفضل للتهرب من مسؤولياتها وتغطية وتبرير أسباب ونتائج سياساتها وممارساتها وفسادها، تكمن في تبادل إحالة الأزمات على “المؤامرات” التي ينفذها خصومهم في السلطة، باعتبارهم “عملاء” للخارج. حيث لاشيء يردع تلك الأطراف وأبواقها من توسيع دائرة المتهمين بالتآمر والعمالة للسفارات، لتطال المواطنين والمجموعات، وكل من يتحرك في الشارع اعتراضاً أو احتجاجاً ضد سياساتها وأدائها، بما فيها انتفاضة تشرين العام الماضي، وكل ما جرى في امتدادها باعتبارهم جميعا المسبب للأزمات.

وقراءة أزمات الكيان والنظام منسوبة للمؤامرة، يعكس إصرار تلك الاطراف على الاستخفاف بعقول اللبنانيين، وتحضيرهم للتعامل مع القادم من أحداث وحوادث متوقعة في ظل الفوضى الأهلية، باعتباره يقع في امتداد مؤامرات الخارج التي ينفذها “عملاء الداخل”. كذلك للتغطية على ما تقوم به راهناً من شد عصب طائفي وتحشيد للأنصار، ولتبرير الاستنفارات والهجومات الاستباقية، ومن ثم ردود الأفعال اللاحقة باعتبارها جميعاً تقع في إطار الدفاع المشروع.

وعليه يصبح مفهوماً سبب تكاثر الحديث، عن عمليات اغتيال متوقعة وخلايا إرهابية نائمة وشبكات تديرها وتمولها السفارات والاجهزة الامنية الخارجية. ولأن الخطر الاسرائيلي حاضر دائماً، فليس مستغرباً نشر الأخبار عن استهداف هذا المسؤول أو تلك المرجعية، أو القيام باجراءت امنية لافشال مخططات تآمرية  لإثارة الفتن، بما فيها الإعلان عن إحباط وإفشال مؤمرات، وسط تقاذف المسؤوليات وتبادل تهم العمالة للخارج من أميركا إلى إيران وتركيا مروراً باسرائيل انتهاء بدول الخليج. 

 وفي معمعة ازدحام “المؤامرات” التي تتردد اصداءها وتتقاذف المعلومات عنها مختلف أطراف السلطة والأجهزة التابعة، والتي تتولى ترويج تفاصيلها الاوساط الاعلامية المكلفة. فإن الغائب هز أن مرجعيات المنظومة التي لا تقيم وزناً للوطن والمواطنين، وقادتها، يقتطعون لكل منهم دويلته المتصوّرة حصصاً ومواقع تخاض المعارك والمناورات السياسية في سبيلها، لكن اختلال التوازن بينها، مصدره دولة حزب الله المسلحة والقائمة ضمن الدولة وقدرتها على التحكم بالبلد، بقوة الأمر الواقع.

وهذا ما كرس بقاء الوطن، أوطاناً طائفية مناطقية أو فئوية، تتشكل من مجتمعات لها حقوق ومصالح ورموز وحصص مقدسة، ولديها سيادة وسياسات ومؤسسات وقوى وإعلام وأعلام. أما علاقاتها الخارجية فتتراوح بين الشرعي والمشروع بالنسبة لها، في ما مصادر تمويلها تتوزع بين المعلن والمعروف والسري المشبوه.  ولذلك فإن تلك القوى وقياداتها مؤهلة لإدارة البلاد وتنظيم الصراعات بين اللبنانيين وإدامة انقساماتهم. حيث كل الوسائل المتاحة شرعية ومشروعة لتحشيد القوى ورص الصفوف وشد العصب الطائفي، يؤكد ذلك التزام الجميع معادلة “واستعدوا لهم” لعبور المرحلة القادمة وضمان البقاء في المعادلة عند حلول أوان التسويات.

أما اللبنانيون الذين يُدفعون قسراً إلى المجهول، ورغم الكم الهائل من المصاعب والتحديات، وفشل محاولات الخلاص وتعثر انتفاضتهم الأخيرة، فالخيار الوحيد المتاح أمامهم للانقاذ هو تجديد المحاولة واطلاق المبادرات دفاعاً عن حقوقهم كل من موقعه، دون استهانة بامكاناتهم مهما كانت ضئيلة ومحدودة، لأن التجارب علمتنا أن المطالب والحقوق تنتزع وتصان من قبل أصحابها.

Leave a Comment