اقتصاد

مؤسسة كهرباء لبنان… نحو العتمة الكاملة دُر!

كتب محمد قدوح

لامس تقنين التيار الكهربائي خلال الاسبوعين الماضيين حدود العتمة الكاملة. وهكذا تبخرت تلك الوعود التي بشرنا بها وزراء الطاقة المتعاقبون منذ العام 1992 بتأمين الكهرباء 24/ 24 ساعة وطيلة أيام الأسبوع دون أي انقطاع. حينها رُصفت الطرقات الرئيسية في البلاد بلافتات تؤكد على قُرب الفرج. مؤسسة كهرباء لبنان أعادت سبب التقنين الحاد مؤخراً والذي وصل إلى التغذية بحدود الاربع ساعات فقط خلال 24 ساعة، إلى عدم تفريغ باخرة الفيول أويل بسبب التأخير في فحص العينات التي أرسلت إلى دولة الامارات العربية المتحدة لاختبار مطابقتها للمواصفات التي تتطلبها شركة سيمنز المشرفة على معملي الزهراني ودير عمار.

لكن التأخير أصلاً ليس بريئاً كما أشار مصدر في مؤسسة كهرباء لبنان لموقع ” بيروت الحرية”، فالهدف منه هو ممارسة الضغط على مجلس النواب الذي كان يتحضر لعقد جلسة نيابية لإقرار سلفة خزينة بقيمة مليار و200 مليون دولار. وهي السلفة التي استقرت أخيراً بعد صراعات ومساومات على مبلغ 200 مليون دولار لشراء الفيول لفترة شهرين. كما هدف إلى تخفيض الأعباء المالية عن المؤسسة لتأجيل العتمة الكاملة أطول فترة ممكنة. وبعدها يخلق الله ما لا تعلمون. المهم أن المواطنين سمعوا معزوفات وزير الطاقة ونواب تيار “لبنان القوي”، حول ضرورة تدبير المبلغ المطلوب للشركة كاملا والا الظلام الدامس. كما تابعوا بعدما  تبيّن أن مصدر الاموال المطلوبة هي من ودائع المواطنين، كيف تراجعوا ووافقوا كحل مؤقت  تراجعم وموافقتهم على مائتي مليون.

قد يطرأ تحسن طفيف على التغذية بالتيار الكهربائي،  مؤقتاً ولفترة قصيرة، بعد تفريغ باخرة الفيول ووصول ثانية محملة بالمادة أيضاً. لكن مشكلة كهرباء لبنان أكثر تعقيداً. فمؤسسة الكهرباء ستعمل وبتوجيه من سلطة الوصاية عليها ـ أي وزارة الطاقة والنفط – على معاودة التقنين في التيار الكهربائي كوسيلة ضغط وابتزاز على كل من وزارة المالية والمصرف المركزي لتسريع الحصول على سلفات خزينة إضافية. كما على مجلس النواب عند الحاجة إلى أموال لصالح المؤسسة لتأمين نفقات الصيانة وغيرها أيضاً. ولكن وبصرف النظر عن “الاعيب” القيمين على هذه المؤسسة، فإن أوضاع كهرباء لبنان تنذر بما هو أسوأ، حتى لو نجح هؤلاء في تأمين السيولة لشراء الفيول وتنفيذ أعمال الصيانة، اذ إن كل المؤشرات تؤكد أن المؤسسة تتجه نحو الانهيار الكامل. ولعل آخر دليل على صحة التوقعات جاء مع تأجيل – ربما إلغاء- زيارة رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب إلى العراق للتوقيع على عقد يحصل لبنان بموجبه على الفيول أويل مقابل خدمات صحية للمواطنين العراقيين في لبنان. يجب أن نعطف ذلك على ما أوردته الأنباء في غضون الايام الماضية لجهة امتناع البنوك الاجنبية المراسلة – باستثاء بنك واحد – عن فتح اعتمادات للبنان لصفقات النفط وغيرها من مواد أساسية، ما دفع للتحذير من سياسات التشكيل بالمصرف وكامل القطاع باعتبار أن اقتصار التعامل على مصرف واحد من شأنه أن يؤدي لاحقاً إلى انقطاع البلاد عن العالم الخارجي للحصول على المواد والسلع الضرورية . ومن المؤشرات الإضافية الثابتة على هذا المصير المعتم ما يلي:

  1. النقص الحاد في التجهيزات والمقومات اللازمة لمتابعة العمل في أقسام المؤسسة نتيجة الدمار الذي لحق بها من جراء انفجار المرفاً في 4 آب الماضي. فبعد قرابة ثمانية أشهر على الجريمة ما تزال مقومات انتظام العمل مفقودة ومعها المستندات والفواتير المستحقة على المشتركين. ومن يطلع على أوضاع مبنى المؤسسة لا يجد سوى هيكلاً عظمياً أمامه أكوام من الخردة والركام. بالطبع لم تتمكن المؤسسة من تأمين الأموال اللازمة للترميم وشراء تجهيزات بديلاً للمدمرة. ويعاني الموظفون أكثر من مثل هذا الوضع، حتى أن معظمهم يشترون الأدوات القرطاسية من جيوبهم لتسيير معاملات المواطنين.
  2. صعوبة الحصول على مشتريات بالعملة الصعبة لتعويض ما خسرته من تجهيزات وقطع غيار لتسيير العمل. وهي مستوردات أو مشتريات حتى ولو كانت من صناعة لبنانية يجب أن تدفع ثمنها المؤسسة بالدولار الاميركي وليس بالعملة الوطنية. ومن المعلوم أن شروط الحصول على بعض التجهيزات المذكورة بالمواصفات المطلوبة تحتاج إلى أشهر قبل تسلمها ما دامت مفقودة من مستودعات المؤسسة. ما يعني أن كل عطل يطرأ يصعب تصليحه وعودة تأمين الخدمة للمواطنين بما فيه الشركات والمصانع والمنازل.
  3. تعرضت وتتعرض مستودعات المؤسسة وخطوطها ومحطاتها وأعمدتها المنتشرة في مختلف المناطق اللبنانية لأعمال سرقة باتت يومية. وقد تضاعفت هذه السرقات طيلة الأشهر الماضية، وبلغت ذروتها في آذار الماضي. فقد أشارت تقارير قوى الأمن الداخلي إلى حصول 60 عملية سرقة خلاله ( سرقتان يومياً)، شملت في ما شملته سرقة أسلاك وتفكيك محطات توزيع ودعامات أعمدة التوتر العالي وما شابه. والملفت أن هذه التجهيزات المسروقة كانت تباع في سوق الخردة، ودون أن تتحرك الأجهزة لملاحقة الجُناة والمشترين وسوقهم إلى القضاء وإصدار أحكام قاسية بحقهم.
  4. التوقف عن جباية فواتير ومستحقات الشركة منذ انفجار المرفأ في بيروت. والمعروف أن باقي المناطق خارج العاصمة تتأخر في عمليات جباية الرسوم منها حوالي عامين عن تاريخ الاستهلاك. وتقدر قيمة الفواتير المتأخرة للشركة بذمم المواطنين بحوالي ألف مليار ليرة لبنانية. ومن المعروف أن كل عملية تأخير في الجباية تؤدي إلى خسائر فادحة للشركة، بالنظر إلى التراجع المستدام في القيمة الشرائية لليرة اللبنانية، ودولرة باقي المستلزمات التشغيلية.

إن هذه المؤشرات وسواها ليست وليدة نتائج الدمار الذي لحق بمبنى الشركة بسبب انفجار المرفأ. وكذلك ليست نتيجة أزمة تمويل أعمال الصيانة والملابسات الفنية التي أحاطت بصفقة الفيول وتأخر الباخرتين، إنما هي نتيجة طبيعية للسياسات التي اُعتمدت منذ العام 1992، ولا سيما التي مورست في غضون السنوات العشر الماضية، والتي تمثلت باعتماد خطط وهمية غير علمية، الغاية والقصد منها هو تحقيق أكبر قدر من السمسرات والأرباح في صفقات شراء الفيول أويل واستئجار البواخر وغيرها. يضاف إلى ذلك كله خصخصة الخدمات التي تقدمها المؤسسة، بكلفة عادل ثلاثة أضعاف القيمة التي كان من المفترض أن تدفعها لمستخدميها بدل رواتب وأجور لتنفيذ هذه الخدمات.  أما شركات الخدمات  فقد تقاسم ملكيتها وحصصها أرباب السلطة كل في منطقة نفوذه. ولعل الأفدح من ذلك كله يتمثل في رفض تعيين الهيئة الناظمة للمؤسسة بهدف إبقاء القرار في يد الوزير وفريقه الاستشاري.

ومثل هذه السياسات لم تؤدِ إلى انهيار خدمات مؤسسة كهرباء لبنان فقط، وإنما شكلت سبباً رئيسياً من أسباب انهيار الوضعين الاقتصادي والمالي في البلاد. حيث أن ديون المؤسسة لصالح الدولة بلغت أكثر من 40 مليار دولار، أي ما يعادل نصف الدين العام. وهي بمثابة سُلف على الدولة مسحوبة من أموال وموجودات المصرف المركزي دون إعادة أي مبالغ منها.

وفي ضوء ما تقدم من البديهي أن يطالب اللبنانيون والدول المانحة والجهات المقرضة للبنان أن يكون اصلاح أوضاع قطاع الكهرباء في مقدمة البنود المطلوبة. وأن يتم فتح الملفات المالية لوزارة الطاقة ومؤسسة كهرباء لبنان، كما سائر المؤسسات التي يجب أن يطالها التدقيق الجنائي الذي يطالب به رئيس الجمهورية، وليس أن يقتصر على المصرف المركزي ووزارة المال دون أن يتعداهما إلى مواقع نفوذ تياره والحاشية. حيث مزاريب الهدر باتت على كل شفة ولسان، ما يترك المواطنين تحت رحمة أصحاب المولدات وجشعهم وابتزازهم.          

Leave a Comment