اقتصاد

لهيب المحروقات يقود البلاد نحو جهنم “الارتطام الكبير”

كتب المحرر الاقتصادي

لم يعد الحديث عما يسمى “الارتطام الكبير” أو الوقوع في الوادي الكبير لجهنم “العهد القوي”، مجرد تحذير تطلقه المؤسسات الدولية والخبراء  المحليين، بعد أن باتت الوقائع واضحة وضوح شمس نهايات فصل الصيف. فالهجرة من لبنان تشمل كل من وجد له منفذاً نحو الخارج. فالأطباء والمهنسون والممرضون والحرفيون والأساتذة الجامعيون والمعلمون و.. وكل من عثر على فرصة حزم حقائبه وغادر البلاد. ومن لم يغادر يعد العدة لذلك، حتى أن عدد المواطنين الذين يتقدمون يومياُ بطلبات جوازات سفر من دوائر الأمن العام يصل إلى عدة الآف. وتختلف الهجرة الراهنة عن هجرات اللبنانيين السابقة، ففيما كانت الأوضاع الأمنية هي الأساس المحرك، نجد الآن  الانهيار المعيشي والخدماتي في مؤسسات القطاعين العام والخاص هو السبب الرئيس الكامن وراء مغادرة البلاد. وأبرز الخدمات دون منازع هي الطاقة الكهربائية وتوفر تمديدات المياه والهاتف والانترنت وفقدان الأدوية والمستلزمات من الصيدليات والمستشفيات وما شابه وغيرها وغيرها.

وبالطبع فالعصب المقرر لكل هذا التراجع هو – إلى جانب سياسة الطبقة المافياوية المسيطرة – فقدان مواد الطاقة، بما هي الفيول أويل  والمازوت والبنزين والغاز وما شابه. فالطاقة الكهربائية العامة تتراجع تباعاً في التغذية اليومية. ولا يبدو في الأفق ما يبشر بارتفاع في ساعات التغذية بفعل وضع المعامل وشبكات التوزيع والتعديات على محطات التحويل من جانب الأهالي الغاضبين وفقدان قطع الغيار و… ولن يغيّر وصول الفيول أويل العراقي من صورة الوضع لأنه لا يمكن أن يؤمن المادة لما يتجاوز الشهر الجاري. أما المولدات التي بات يعتمد عليها اللبنانيون في يومياتهم الملتهبة فقد باتت على الأغلب تحصل على المازوت بأسعار السوق السوداء. وتبعاً لذلك تقوم برفع أسعارها قبل نهاية الشهر، حتى بات كلفة الاشتراك بالحد الأدنى (5 أمبير) تعادل راتب أجير متوسط الدخل في الشهر الواحد. ومعه اضطرت معظم المحترفات والمحال الصغيرة فضلاً عن المنازل في الأحياء، والتي تحتاج إلى الطاقة مقفلة لعجزها عن دفع قيمة الاشتراك، أو شراء المازوت للمولد الذي تملكه. أما المصانع فقد أعلنت عن التوجه نحو الحصول على المواد بأسعار السوق العالمي وبيعه لمن يدفعون الثمن من مؤسسات وشركات. والمؤسسات الفندقية سبق وتوقفت عن استقبال روادها، بالنظر لفقدانها الطاقة، ما يحول دون تقديمها الخدمات التي درجت عليها. ولعل الأكثر مأساوية أن هذا الوضع من شأنه أن يطلق رصاصة الرحمة على العديد من القطاعات. فالمطاحن مهددة بدورها بالتوقف عن طحن القمح، وينطبق الأمر على الأفران وتصنيع الخبز. أما السوبر ماركات المواد الغذائية فتتعرض العديد من  موجوداتها للتلف بسبب ندرة التيار الكهربائي وعجزها عن متابعة التبريد. وفي مثل هذا الوضع يتراجع المخزون التمويني في البلاد إلى الحدود الدنيا. ومن الصعب استيراد شحنات إضافية للأشهر المقبلة ما دامت أوضاع الطاقة ومصادرها تسير من سيء إلى اسوأ. والقطاع الزراعي بما هو انتاج اللحوم الحمراء والبيضاء والبيض وتبريد انتاج مواسم الفواكه والبطاطا وغيرها، يعجز بدوره عن استقبال الانتاج وتخزينه وإمداد الأسواق المحلية والخارجية في الأشهر المقبلة. والمحركات والآليات الزراعية والشاحنات كلها تعمل على المازوت المفقود وما تحصل عليه من السوق السوداء يضاعف كلفة الإنتاج والتوزيع. ثم أن الناس في الجبال مقدمة على فصل الشتاء وبحاجة للمازوت للتدفئة. ومع هذا لا يبدو في الأفق أي مشروع حل فعلي للوضع باستثناء التوجه نحو رفع الدعم، وهو ما سيكون له مضاعفاته القصوى على صعد كلفة الانتاج وشبكات التوزيع. وبالتالي الأسعار للمستهلكين الذين يعجزون الآن عن تأمين قوتهم بالأسعار الرائجة فكيف بعد تضاعفها. ولا يغير من هذا الوضع الكارثي المخزونات على أنواعها التي كشف عنها الجيش وقوى الأمن والمعدة للاحتكار.إذ إن ارغام أصحابها على بيعها بالسعر الرسمي أو تسليمها للمؤسسات الأكثر حاجة، ليس  سوى نقطة في بحر الأزمة الناجمة عن اجتياح قوافل التهريب الحدود من شمال وشرق البلاد إلى سوريا من المعابر الرسمية والأهلية. ومن المعلوم أن اجراءات لم تتخذ بحق المحتكرين، ومنهم من عرَّض حياة ألوف المرضى للخطر، والكثيرين للموت، نتيجة إخفائهم الأدوية الحيوية لأمراض مهدِّدة لحياة أصحابها بالموت كمرضى السرطان وغسيل الكلى والقلب ومخفضات الحرارة وأدوية الالتهابات وما شابه.

والتدخلات السياسية التي حمت المحتكرين أثبتت دون أدنى شك مدى مشاركة قوى السلطات الطوائفية في هذا الإذلال للمواطنين. فقد ثبت أن هؤلاء يلوذون بكل من حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحر وتيار المستقبل والقوات اللبنانية وربما غيرهم. ومن شأن عدم سوقهم إلى العدالة ومحاكمتهم  بتهم الاحتكار وتهديد الأمن الصحي وإخفاء ما يصل إلى أيديهم من السلع المدعومة، من شأنه أن يدفع آخرين إلى نفس السلوك الإجرامي، ما يجعل البلاد والعباد تحت رحمة جشعهم. وعليه يمكن القول إن السوق السوداء باتت هي المهيمنة على مختلف القطاعات التجارية من مدخل هيمنتها على مصفاتي التخزين في الزهراني وطرابلس، وصولاً إلى شركات التوزيع والمحطات وصولاً إلى صغار تجار الغالونات. والمعبِّر هو أن المسؤولين لا يفعلون سوى تأخير المشكلة لأسابيع، وفي أحسن الأحول لشهر واحد كما يحدث حالياُ وسط وحول الأزمة. إذ كل الحلول المعتمدة هي ترقيعية وموعدها النهائي هو نهاية شهر ايلول الحالي، حيث تتحرر أسعار المحروقات دون أي بحث جدي وملموس في بديل فعلي يخفف من أثر الكارثة الزاحفة على البلاد. وضمن هذه الأجواء من الانسداد لم  تجد الأمم المتحدة لمساعدة لبنان سوى تخصيص مبلغ عشرة ملايين دولار من أجل شراء الوقود للمستشفيات ومحطات المياه، على أن يتوجه من المبلغ ما مقداره 6 ملايين لمساعدة 65 مستشفى ، فضلاً عن منشآت صحية أساسية، وصيدليات، ومستودعات تخزين مبردة، وأربعة ملايين دولار لتأمين الوقود لضمان استمرارية أربع محطات ضخ مياه تخدم أكثر من ثلثي السكان في بيروت والبقاع وجنوب البلاد وشمالها.

ومن المعلوم أن قدرة “مؤسسة كهرباء لبنان” تراجعت خلال الأشهر الماضية عن توفير التغذية للمناطق كافة، ما أدى إلى رفع ساعات التقنين لتتجاوز 22 ساعة يومياً، ولم تعد المولدات الخاصة قادرة على تأمين المازوت اللازم لتغطية ساعات الانقطاع، ما اضطرها أيضاً إلى التقنين، ورفع تعرفتها بشكل كبير جرَّاء شراء المازوت من السوق السوداء.

وقدرت الأمم المتحدة أن 78 في المائة من سكان لبنان باتوا يعيشون في الفقر، فيما يعيش 36 في المائة منهم في فقر مدقع.

ولم تصمد صيغة الدعم الإضافي المؤقت التي ابتدعها  اجتماع القصر الجمهوري بحضور الرئيس عون وزيري المال والطاقة وحاكم المصرف المركزي، في دعم المحروقات وفق سعر صرف للدولار على 8000 ليرة، وتسجييل الفارق كديون على الموازنة العامة، حتى لساعات قليلة، فقد تمددت طوابير الذل من المحطات ولمسافة مئات الأمتار وأحياناً كيلومترات. وسرعان ما أدت الأزمة إلى مضاعفات أمنية ذات أبعاد طائفية كما حدث بين عنقون ومغدوشيه، وكما يحدث في زحلة وجوارها ويتم تلافيه بجهود حقيقة، فضلاً عن الاشتباكات اليومية على المحطات والتي تدفع بعضها إلى الإقفال. وعليه فإن أزمة المحروقات قائمة، ومن غير المتوقع أن تشهد تغييراً جذرياً على مستوى وصول البنزين أو المازوت للمستهلكين، علماً أن هذا الحل الترقيعي ساهم في زيادة أرباح المحتكرين وتجار التهريب لا أكثر. خصوصاً مع تباطوء المصرف المركزي في فتح الاعتمادات اللازمة لاستيراد المحروقات، خصوصاً أنه بات يعاني من صعوبة تأمين الدولارات. ولعل استمرار الدعم المؤقت يشكل سبباً كافياً للمحتكرين والمهربين للاستمرار بعمليات التخزين والتهريب خارج الحدود لتحقيق أرباح إضافية. ومن المعلوم أن الحل الحقيقي خارج التداول بما هو دعم المواطنين من خلال البطاقة التمويلية والقطاعات بدل دعم المهربين والمحتكرين.

ويأتي ضمن السياق محاولة حزب الله الاستثمار في الأزمة والحديث المتكرر عن ناقلات تتبع ناقلات من المازوت والبنزين مصدرها ايران تتجه نحو لبنان. وهو مازال وعداً ومجرد محاولة لتصوير ايران بصورة المنقذ من الأزمة، علماً أن أحد أسباب الأزمة هو التهريب إلى سوريا، والتي تتولاها شبكات إن لم تكن بموافقة الحزب وإشرافه، فعلى الأقل بغض نظر منه. أما ما أقدم عليه مجلس النواب من مواقف اعتبرها بعضهم أنها كفيلة بضرب الاحتكارات والمحتكرين وتحرير السوق فقد كان هدفها فتح المجال للبواخر الايرانية من جهة والإدعاء بحماية المواطنين من الاستغلال، وهو أمر ليس في حسابات المجلس النيابي ولا مجلس وزراء تصريف الأعمال ، وليس من صلاحيات أو اختصاص المجلس الأعلى للدفاع بالتأكيد. وكل هذا يعني مواصلة استنزاف أموال المودعين الذين يجري التحايل عليهم “كل ما دق الكوز بالجرة”، بينما تبقى السوق بتصرف كارتيلات الدواء والنفط، مع إضافة أعداد إضافية لهم من مستجدين على السوق، ممن يتمتعون بحماية ورعاية سلطات الأمر الواقع ومن يشابههم وينسج على منوالهم سواء استوردوا المحروقات من ايران أو سواها.

والمؤكد أن حاكم مصرف لبنان قد أبلغ المسؤولين وبصريح العبارة منذ أشهر أن المصرف لم يعد بمكنته الاستمررا في دعم المواد الأولية اللازمة ما يتطلب قرارات سياسية واقتصادية مختلفة عن سياسة تمديد الأزمة المعتمد، والتهرب من تحمل مسؤولية قرارات غير شعبية لا يريد أحد تحمل مسؤوليتها. فيما الجانب الموازي أن هذه السلطة لا تجروء على قطع دابر التهريب وضبط السوق، والإشراف على توزيع المحروقات فعلياً كي تصل إلى من يجب أن تصل إليهم بدل أن تضيع في الدهاليز المعروفة وغير المعروفة .

وبالتوازي، يخفق مصرف لبنان والحكومة في الوصول إلى آلية مقبولة لتحديد السعر المتوجّب على المصرف اتّباعه لتأمين الدولارات لاستيراد المحروقات والغاز. فقد جرى رفعه من 3900 إلى 8000 وغداً إلى 16 ألفاً وبعده إلى ما هو عليه سعر الدولار في السوق السوداء. وبات واضحًا أن حاكم المصرف، قد طوى صفحة الدعم منتظراً القرار السياسي ليشكّل له غطاءً لتأمين دولارات الاستيراد وفق سعر صرف حر، فيما تنتظر الحكومة ما يمكن اجتراحه من معجزات تتعلّق بالبطاقة التمويلية لتخفّف من وطأة رفع الدعم. ووسط الجمود الحاصل على مستوى القرارات، لا تتوانى محطات البنزين والغاز عن إعلان إقفال أبوابها نتيجة عجز قوى الأمن والجيش عن ضبط التوزيع، بما يؤدي إلى ادخال البلد في حالة شلل تام، بالمقابل تزدهر تجارة الغالونات بأضعاف أضعاف السعر الأصلي.

مع ذلك يمكن القول إن إتفاقاً ضمنياً قد جرى التوصل إليه بين القيادات السياسية ومصرف لبنان والشركات المستوردة، ويقضي برفع الدعم، لكن القرار السياسي بشانه لم يُتَّخَذ بعد، وقد لا يتخذ قبل نهاية ايلول نظراً لأن أحداً لا يجروء على ذلك قبل حل مسألة البطاقة التمويلية. وبالتالي ما على اللبنانيين الا مواصلة النوم على مقربة من خراطيم المحطات بانتظار ملء سياراتهم الفارغة، وانتظار عدادات أسعار المولدات لتفرغ جيوبهم الفارغة لأصلاً، في ما قوى الانتاج والمؤسسات تتابع الاقفال لعل وعسى أن يأتي الفرج الذي لا مؤشرات على تعجيل قدومه أبداً.

Leave a Comment