صحف وآراء

لبنان وفلسطين وإلحاح الخروج من “الصندوق المقفل”

سيمون كرم*

مقال السفير الاستاذ سيمون كرم عن نشرة “جسـور” العدد السادس تاريخ 6 شباط 2021التي تصدر عن لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني، وتجمع اراء ومقاربات متنوعة حول القضية الفلسطينية واللجوء الفلسطيني في لبنان.

تعود معرفتي بالفلسطينيين، قضية وشعبا ولاجئين إلى بداية سبعينيات القرن العشرين. كنت طالبا، وأعمل كصحافي مبتدئ في مجلة، ضمن إطار صفحة طلابية، تسابقت صحف ومجلات ذلك الزمن على إنشائها، مع انتقال حمى “أيار 68 “الباريسي إلى جامعات لبنان وشوارع بيروت. كلفت مرة بإجراء تحقيق حول الأوضاع الطالبية في أحد المخيمات الفلسطينية. أتذكر الزيارة والمدرسة الثانوية داخل مخيم البداوي؛ وصعوبات تسجيل الطلاب في جامعات الشمال على قلتها تلك الأيام؛ وتوسع التحقيق الى اوضاع اللاجئين، والعمل الفدائي وإشكالياته قبل اندلاع الحرب.

الحرب كانت خبراً سيئاً وحقبة أكثر سوءً. كنت على قناعة، رسختها الأحداث، أن الصدام اللبناني – الفلسطيني وبال على الشعبين، وعلى الجماعة المسيحية في لبنان. خلال “سنوات الدم” تلك، لم يكن هناك أدنى قبول لأي طرح يبصر الرأي العام أو القائمين على الأمور بالمشترك بين الشعبين، بين التجربتين، بين ما حصل لشعب، وما يمكن أن يحصل لآخر. ثم انقضت “سنوات الدم” وجاء “زمن الهزيمة”، بعدما انتهت حروب لبنان إلى ما انتهت إليه، نتيجة انعدام قدرة اللبنانيين والفلسطينيين على حد سواء، على ابتداع صيغة قبول متبادل تستجيب لمصلحة الطرفين وحاجتهما إلى العيش بأمن وسلام.

أيام “زمن الهزيمة” تلك صارت الصدور فيها أكثر اتساعا، تحت وطأة حكم “نظام البعث” الذي حرص على توزيع “أفضاله” بالعدل والقسطاص على معظم اللبنانيين والفلسطينيين. ورغم صعوبة أحوالهم، كان هناك حد من الإستجابة إلى ضرورة الخروج من آحادية المنطق القومي، من حيث هو بالطبيعة إلغائي للآخر وصدامي معه، ومتجسد لمن يرغب “بقوات الردع” ومخابراتها.

خلال حوارت تلك السنوات، وندواتها، كنت أدعو إلى استلهام الأطر التي كانت قائمة في مرحلة ما قبل “الحرب العالمية الأولى” والتي لم تضع أوزارها بعد، على أكثر من صعيد، خاصة فيما يتعلق بمنطقتنا ومصير شعوبها… ولكن بالقدر الذي كان هناك انفتاح لبناني وفلسطيني للنظر إلى واقع الشعبين بعيون ابتداع الصيغ الملائمة لمعالجة ما هو قائم في المدن والبلدات والمخيمات، نقاط تماسها والأوضاع في داخلها، ما خلفته الحروب وما يلوح في مستقبل الأيام، بقدر ما كان هناك تصميم على فولاذية المقاربة القومية لدى الدولتين المعنيتين، وإصرار على مفرداته ورسائلة، بالأمن لدى سوريا وبالدبابات والطائرات عند إسرائيل، أما الدولة اللبنانية، وهي الثالثة المعنية، فقد وقفت على قارعة الطريق متفرجة، يراوح موقفها بين العدائية والإنكار والغيبوبة.   

ثم جاء مؤتمر مدريد، إثر حرب الخليج الثانية، فاتحة لمرحلة طويلة من الآمال والخيبات والصراعات والمفارقات، كنت شاهدا ولاعبا خلال مراحلها الأولى. وسرعان ما انتقل لبنان إلى هامش المفاوضات بعد بضع جولات في واشنطن، واستراحت الدولة اللبنانية، في ظلال تلازم المسارين وأعمال “المقاومة”، على وقع مقتضيات وإيقاع المسار السوري.

الفلسطينيون كانت حركتهم السياسية على العكس تماما، هم انتقلوا من الهامش، ممثلا بالأعضاء الملحقين بوفد التفاوض الأردني، إلى صنع الحدث، عرب التفاوض السري في العاصمة النرويجية، وإلى قلب الأضواء العالمية بالتوقيع على “إتفاق أوسلو” في حديقة “البيت الأبيض”.

 هنا تبدأ المفارقات، بداية تطبيق دؤوبة لاتفاقية أوسلو عبر سلسلة من التفاهمات المعقدة أرجعت أرضا وأقامت سلطة، وجمود قاتل على المسار اللبناني، بالمعنى الحسي للقتل، كما تمثل في ضربتي 1993 و 1996 والأعمال الحربية اليومية، وكلها لأسباب قليلها له علاقة بلبنان، وكثريها بتعرجات التفاوض بين سوريا وإسرائيل، إلى أن جاءت لحظة انسداد على المسار الفلسطيني، فتحت جمال المناورة أمام الحكومة الإسرائيلية، فقدم رئيسها طرحا، تشدد إزاءه الرئيس السوري، ثم إزاء هذا التمنع، ومن باب الرد، طرح الإسرائيليون مسألة الإنسحاب الآحادي من جنوب لبنان، أُسقط في يد السوريين ومن معهم. الحركة الفلسطينية، بعد أن انتقلت من حال المنظمة إلى حال السلطة، وإزاء الصراع على تطبيق أوسلو، ثم القرار الفادح بعسكرة الإنتفاضة الثانية والخسائر التي ترتبت عليه، وصولا الى الوضع المعلق القائم بين السلطة وإسرائيل، انعدام القدرة على التقدم والتراجع لدى الطرفين في آن معا.

وفيما كيانات المشرق، دولاً وشعوبا على هذه الحال، كان العالم الإسلامي يتجه نحو الإنفجار الكبير للبركان المتمخض منذ 1979، الحرب الأهلية الكبرى الرابعة في “دار الاسلام”، مما لا نزال نعيش انفجاراته إلى يومنا، انهيارات لكيانات ودول في العالم العربي مشرقا ومغربا، وموجات هجرة هائلة تهز التوازنات العاملية.

ليس ما يحدث عاديا، ولا هو محصور بحيز ضيق، ولا هو عارض سوف يمر بانقضاء سنوات معدودة، هي موجة طالعة من عمق أعماق الإيمان والعقيدة الإسلامية، والتوتر الذي تعيشه مجتمعات كبرى في علاقتها مع العالم المعاصر والحضارة، لجهة الشريعة قانونا للحياة الفردية والعلاقات الإجتماعية ودستورا للدولة على حد سواء، زخمها من القوة بحيث أنه يضرب بضراوة من أقاصي مشارق العالم الإسلامي إلى مغاربه، عابرا الأطلسي إلى قلب أمريكا، ومتخطيا هضبة الأناضول الى وسط أوروبا. هو مخاض وهو أيضا حقبة من الأمل وعدم اليقين، وليس ما يضمن أن ينفرج هذا الوجع الهائل عن نهاية سعيدة.   

مفاعيل الصراع الدائر في قلب الإسلام، وبينه وبين مراكز الحضارة العالمية هائلة، ليس أقل هذه النتائج تبدل في أسس انعقاد العلاقات، صداقة وعداوة، بما فيه داخل المثلث الفلسطيني – الإسرائيلي – اللبناني، بانتظار اكتماله بانضمام “سوريا الجديدة” إليه فيصبح مربعا، يتعين عليه صياغة علاقات جديدة بين أضالعه؛ مما لن يكون ممكنا تجنبه في قابل الأيام، الثابت أنه سوف يتعين على الأطراف جميعها التفكير والعمل خارج أطر المنطق القومي، دينيا كان هذا المنطق أو إتنيا.  

لا يأتي التصالح الخليجي – الإسرائيلي، من فراغ، هو محكوم بضغط الصراع على جوهر الإسلام، الصراع مع إيران الرافعة هويتها الشيعية بريقا أحمر فوق قبة مسجد جمكران، وتركيا الطائفة في أرجاء العالم السني شاهرة سيف الفتح فوق منبر “آيا صوفيا”.

ممالك الخليج التي لم تعتنق يوما مقتضيات الصراع العربي – الإسرائيلي، من حيث كونه صراع قوميات، لأنها بالطبيعة نقيض الدولة القومية، مصدر شرعيتها الأساس هو الشريعة، وعصب تماسكها الرابط القبلي، نظرتها هي ضرورة الدفاع عن حق الفلسطينيين بأرض ووطن، والإعتراف بواقع الوجود اليهودي في هذا الحيز من العالم الإسلامي، من حيث كونه تاريخي، منذ أن انتقلت مجتمعات يهودية من إسبانيا ودول أوروبية أخرى، هربا من الإضطهاد الديني، إلى شمال إفريقيا وأمان السلطنة العثمانية وتسامح المسلمين، نظر شارك فيها الخليجيون مع الأتراك والمغاربة والأردنيين، رغم اختلاف النظم السياسية.  

الخروج من “الصندوق القومي” ومآسيه، سبقنا إليه الأوروبيون، بعد حربين، طرحا على من بقي حيا “السؤال حول معنى الوجود”، بعدها عادت الشعوب لبناء حيز يجمعها، “الإتحاد الأوروبي” القائم على مبدأ التخلي المتدرج والسلمي عن مكونات وامتيازات السيادة القومية، والعودة لبناء وشائج وأواصر العالم القديم. سوف يتعين علينا التمثل بهذه التجربة، آخذين بعين الإعتبار خصوصيات مجتمعاتنا وحاجاتها.

* سفير لبنان السابق في واشنطن

Leave a Comment