ثقافة

“لا يمكن إحتلال حضارة عظيمة… إذا لم تدمر نفسها من الداخل”

يوسف اللقيس

بهذه العبارة- العنوان – للمؤرخ والكاتب الأميركي “ويل ديورانت” يتم إستهلال الفيلم الذي اتخذها كاستشهاد لما يحاول التعبير عنه عبر قصته التي يربطها أصحابه بالزمن الحاضر، كما يؤكد كاتب السيناريو “فارهاد سافينيا” قائلًا: “أن الخلل البيئي وفساد القيم اللذين حكما على المايا بالموت، يتكرران اليوم ويهددان حضارات الأرض بالزوال”. إننا أمام تصور خلدوني للحضارة والتاريخ الذي يعيد نفسه، “ابن خلدون” حدد استبداد المُلك و الترف بأنهما اللذان يقودان إلى عدم الإستقرار الداخلي مما يهدد بقاء الحضارة.

فإن كان الإستقرار هو الشرط الخلدوني الأساسي الذي تقوم عليه الحضارة، فإن غيابه يعني بالضرورة الإنهيار الداخلي، مما يتيح للقوة الخارجية أن تمسك بزمام السلطة وتسقطها لتنهض قوة جديدة في مكانها، ولعلّ هذا هو ما حاول التعبير عنه الفيلم حينما اُسْتُهِلّ بالعبارة المذكورة سابقًا لـ”ويل ديورانت”.

“ميل جيبسون” هذا الإنسان الفذّ والعبقري، لا استطيع أن أصف مدى تأثّري أنا شخصيًا بعدسته الاخراجية و تمثيله الساحر، فهو أحد الأسباب التي كونت شغفي و عشقي السينمائيين وزرعته في أعماقي، لأصبح بعد ذلك سينافيليٌّ رقم واحد و بامتياز. “جيبسون” من الأسماء المثيرة للجدل وهو المخرج الأشهر والمثير للكثير من النقاشات حول أعماله ممثلًا ومخرجًا والمسيحي المؤمن المحافظ، صنع العديد من الأفلام التي كانت دائمًا محل تساؤل، ولا يعدو فيلمه أبوكاليبتو  Apocalypto) ) إلاجزءًا من هذه السلسلة، فقد اتهم سابقًا بمعاداة السامية بعد فيلمه الرساليّ أو التبشيريّ “آلام المسيح” الذي هزّ به هوليوود و العالم، لأنه يُحمّل اليهود وزر صلب المسيح.

في فيلمه (أبوكاليبتو) والذي عرض في أواخر عام 2006 لا يخرج “جيبسون” عن “ثيمته” المعتادة، هاجس الحرية الذي صبغ العديد من أفلامه، لكنه كان أقل مباشرة وأكثر رمزية، فلم يكن فيلمًا رساليًا مباشرًا أو نقدًا صارخًا لممارسة سياسية، مما جعل قراءات الفيلم تتنوع من النظر إليه في سياق التبشير بالدين المسيحي وحضارة الرجل الأبيض بسبب آخر مشاهد الفيلم، حين جاءت السفن العملاقة بالحضارة لتوقف قتل أفراد قبائل المايا لبعضهم البعض.

حضارة المايا يا سادة ….

عنوانٌ ما يلبث أن يمرّ علينا، إلا وقلنا بصوت واحدٌ صارخ: APOCALYPTO

عمل اختصر لنا حضارة عظيمة كانت ومازالت آثارها موجودة على الأرض وفي عقولنا، لِما تركته من سحابة ضبابية في تفاصيل وطرق عيش شعبها، هذا الشعب الذي اتّصف بدمويته وطقوسه الغريبة.

كنا نسمع ونقرأ عناوين عريضة تجمد الدم في عروقنا عن حضارة استطاعت أن تحفر عميقًا في تاريخ البشرية.

ولكن هل شاهدنا ذلك أمامنا ؟ هل دخلنا هذا العالم وغصنا في تفاصيله المرعبة ونمطية عيش كانت بالنسبة لنا مجهولة؟

هل جرّبنا أن نبحر في تاريخ مشفر عن اعظم الحضارات التي شهدها التاريخ البشري؟ هيا قل لي إلى أي مدى مستعد أن تذهب من أجل الحفاظ على حياة من تحب؟

“ميل جيبسون” ومن غيره عملاق هوليوود ورقمها الصعب ، يُبدع في نحت أحد أهم واعظم الأعمال السينمائية التي غردت منفردة في سرب الصراع من أجل البقاء، لتصبح أهم وأقوى وأعظم الأفلام التي تتطرق لرحلة ملحمية تضج بالصراع الدموي من أجل الحفاظ على الوجود في وقت أصبحت الروح فيه مهددة لأن تزهق أمام المذابح كقرابين بشرية للآلهة.

قرية مسالمة تعيش بمنأى عن القرى الباقية، تعتمد على الصيد في حياتها وتعتمد المقايضة مع غيرها من القبائل إن كانت هناك حاجة لذلك. ندخل في مشهدية في البداية تأخذنا في رحلة لنعرف طرق عيش هذه القبيلة وفهم تقاليدها وعاداتها في الجلوس دومًا مع الحكماء للاصغاء لقصصهم واخذ العبرة منها، ودومًا ما تكون ثقافتهم مرتبطة بالحيوانات كونهم على احتكاك مباشر مع هذا العالم ليلًا و نهارًا.

يمر يوم مسالم واحد فقط ، ليقول لهم القدر كفى سلامًا واستعدوا لخوض حرب سوف تسطر مستقبلكم المجهول وتكتب تاريخكم بالدم، وتحفر عميقًا في وجدان تاريخ الحضارات. ليبدأ حينها زحف قبيلة أخرى من اقوى واشرس القبائل التي عرفتها هذه الحضارة، وتبدأ معها لغة الدماء بالتكلم على الأرض، في القضاء على من يقاوم والفصل بين الصغار والكبار في محاولة منهم للفرز، ومن ثم التجهيز لرحلة طويلة تقشعر لها الأبدان، وجهتها مذابح الدم لآلهة اهرامات المايا العملاقة، التي سكنت في وسط اميركا التي تُعرف حاليًا بغواتيمالا. ويبقى العبقري “ميل جيبسون” مشهدًا تلو الآخر يخطف نبضات قلبك ويكسب تعاطفك مع بطله وزوجته الحامل التي تركها في حفرة عميقة مع ابنه الصغير من دون مأوى أو مأكل، حتى لا تقع بشراك الأسر لنعيش لحظات ملحمية تؤكد مدى قوة تحمل المرأة وقوة إصرار الرجل في الحفاظ على عائلته، هذه العائلة التي هي الحضارة الحقيقية لكل إنسان يخاف على من عنده من احباء، هذه الحضارة التي يبدأ الإنسان ببنائها وتدعيمها وحمايتها لتشب وتكبر، فيعيش داخلها وتعيش داخله، ناهيك عن بيئة التصوير في العمل واسلوب طرح الفكرة الذي يجعلك تعيش داخل هذه الغابة، وتكون فردًا من افراد قبيلتها، تتقرب من بساطتها ولغتها الأصلية التي أصر “جيبسون” المخرج على أن تكون اللغة المحكية في فيلمه هذا، فكانت إضافة رهيبة للعمل واعطته بعدًا واقعيًا لاغية بذلك المسافة بين الفيلم والمشاهد.

واخيرًا اصدقائي أود أن أقول بأن الفيلم عميق لدرجة كبيرة فهو يحاكي أنفسنا البشرية ووقتنا المعاصر، يقدم اسقاطات دسمة تضج بالثقل الوجودي والنفسي للإنسان وللسينما على حد سواء، جاء الفيلم ليصرخ ويقول بأن الإنسان لم يتغير، منذ شعوب المايا ودحرجة الرؤوس وتقدمة القرابين البشرية، وحتى اليوم والعالم يدّعي العقلانية والتفوق والتمدن، إلا أن منطق الإنسان لم يتغير، هذا الإنسان الذي يُخضِع نظيره الإنسان بالقوة والبطش متى امتلكهما. وهنا لفتتني عبارة للمفكر اللبناني “علي حرب” هي: “كلما قتل إنسان نظيره فزعتُ من نفسي” وكانت قد مرّت امامي في أحد الأعمال الوثائقية التي تتحدث عن الحرب الأهلية اللبنانية، وكيف أن الدموية قد تنبع من الذات البشرية.

لحظات خالدة بقيت عالقة في ذاكرتنا السينمائية عن طريق عدسة “جيبسون” في فيلم apocalypto  ، والذي يعني “نهاية و بداية جديدة”، عدسة اخراجية جيبسونية كانت كفيلة بتسميرنا أمام هذا العمل السينمائي الثقيل في مشهديته وعمق محتواه، الذي لم ولن يتكرر فأصبح نهجًا يقتدى به في مدرسة الصراع أجل البقاء.

★هامش :

– الفيلم يضم ممثلين من الأميركيين الأصليين وممثلين مكسيكيين من السكان الأصليين.

– جميع القبائل والشعوب العرقية التي تم تصويرها في الفيلم كانت “مايا”، حيث أراد “جيبسون” تصوير مدينة المايا التي بنيت للقصة على أنها «عالم مجهول» للشخصية. على غرار فيلم جيبسون السابق «آلام المسيح»، كل الحوار هو في تقريب حديث للغة القديمة في المكان. هنا، يتحدث السكان الأصليون لغة “يوكاتيك” مايا مع ترجمة، والتي تشير أحيانًا إلى اللغة باسم المايا.

– كان هذا هو آخر فيلم أخرجه “جيبسون”حتى عام 2016 عندما أبصر «هاكسو ريدج» النور أي بعد عشر سنوات.

– حقق الفيلم نجاحًا في شباك التذاكر، حيث حقق أكثر من 120 مليون دولار في جميع أنحاء العالم تحت ميزانية 40 مليون دولار فقط، وتلقى تعليقات إيجابية حيث أشاد النقاد بإخراج جيبسون، والتصوير السينمائي لـ دين سملر، وقد ترشح وقتها لثلاث جوائز أوسكار عن افضل مكياج، وافضل خلط اصوات، وافضل تحرير اصوات.

Leave a Comment