صحف وآراء

لا “حل” للقضية، من دون انهيار المؤسسة العنصرية بكاملها

كتب سري نسيبة*

مقال الكاتب والمفكر الفلسطيني سري نسيبة عن نشرة “جسـور” العدد السادس تاريخ 6 شباط 2021التي تصدر عن لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني، وتجمع اراء ومقاربات متنوعة حول القضية الفلسطينية والاحتلال الصهيوني وقضايا اللجوء الفلسطيني في لبنان.

قضية اللاجئين ليست قضية منفصلة، بل هي بالأساس قضية الشعب الفلسطيني الذي تم الاستيلاء على أرضه وتشتيته في بقاع الأرض، أو إحكام السيطرة بأشكال مختلفة على من تبقى منه، بحيث لم يعد واقعياً الكلام عن “حل” قضية اللاجئين بعيداً عن “حل” أو “تفكيك” أو “هدم” ذلك الكيان الجديد الذي نشأ وتطور وتوسع عبر سبعة عقود، واكتسب شخصية دولية، وفرض نفسه في الحقبة التاريخية التي تعيش ـ الأمر الذي حدا بالقيادة الفلسطينية والعالم العربي والمجتمع الدولي أن يسعى لإيجاد “تسوية” معه تتضمن الكثير من التنازلات ومنها ما يخص اللاجئين في الشتات، ولكن دون جدوى.

بدلاً من قيام إسرائيل بانتهاز الموقف المرن الذي أبدته القيادة الفلسطينية من أجل التوصل إلى تسوية، عكفت على تكريس هيمنتها على الأرض التي استولت عليها في العام ٦٧، وعلى من تبقى من السكان الفلسطينيين في أرضهم. فهي من جهة أحكمت السيطرة بأشكال مختلفة على الأراضي الجديدة التي وضعت يدها عليها، ومن جهة ثانية، أكدت من خلال قوانينها يهودية الدولة وحق تقرير المصير بشكل حصري لشعبها اليهودي على مجمل هذه الأرض.

يضع هذا الواقع الشعب الفلسطيني في شباك من الصعب إيجاد مخرج كريم من أي منها، أكان ذلك في مخيمات اللجوء في الشتات، أو في مناطق الـ  ٦٧ المختلفة، أو داخل الخط الأخضر. ففي كل من هذه المناطق يواجه الفلسطينيون تحديات خاصة بظروفهم فيها. وقد يسعى فريق منهم وراء حلول جزئية لمعاناتهم، أو يجدونها مفروضة عليهم، لكنهم فيها جميعا يعانون في الأصل من نفس المشكلة الأساس، ألا وهي الكيان الصهيوني بطبيعته العنصرية.

كما أسلفت، لا يوجد “حل” للقضية، إن لم يكن قائماً على انهيار المؤسسة العنصرية بكاملها. وكما أسلفت أيضاً قضت إسرائيل بنفسها على فرصة الحفاظ على كيان محدود المساحة لها، وذلك من خلال سياستها الاستعمارية، ورفضها التعاطي مع موقف القيادة الفلسطينية المرن في حينه. يضعنا هذا أمام مستقبل قد يستمر عقوداً، ويتطلب وضع خريطة فكرية طويلة المدى تبينّ التضاريس المختلفة والفضلى التي قد نضطر لخوضها في المواقع المختلفة، من أجل الحفاظ على وحدة الشعب وقدرته على الصمود، وصولاً إلى التفكك الضروري في المؤسسة الصهيونية لتمكين الشعب بكل فئاته من ممارسة حقوقه.

أما عودة إلى الحاضر وإلى “أخبار” الـ “تسويات” والعملية السياسية والولايات المتحدة والموقف الدولي إلخ..، فليس مستبعداً أن تجد القيادة الفلسطينية نفسها في وقت ما خلال المستقبل المنظور منجرّة بضغط ظروفها في تيار إقليمي – دولي يدفع بها لتسوية منقوصة مع إسرائيل تعكس الواقع الإستيطاني، ولا تعكس تلك الصورة التي كانت في نصب أعين ياسر عرفات عندما أقدم على خطوته السلمية قبل ما يزيد عن عشرين عاماً، أو التي تتواءم مع قرارات الشرعية الدولية أكانت بخصوص الأرض أو اللاجئين. ليست واضحة معامل هكذا تسوية إن حصلت، والتي لن تعالج القضية من جذورها ولن تشفي الغليل الوطني؛ بل قد تتزامن أيضاً مع محاولات موازية لتفكيك المخيمات وتجزئة المطالب والحلول بحسب المواقع والظروف ولتذويب الهوية والسردية الفلسطينية. لكنها حتى لو لم تتم فالأغلب أن إسرائيل سوف تجد طريقاً لتنفيذ عناصرها تدريجياً من جانب واحد، وسوف تطال أثارها لعقود قادمة ـ أو سوف تنعكس على وضع السكان داخل فلسطين وخارجها، ويكون الهدف منها تفتيت وتذويب الحضور والهوية الفلسطينية في المخيمات والشتات، وتثبيت وتكريس الحيازة السيادية الصهيونية على الأرض في الداخل، ما يعزز الفصل بالتالي بين الشعب وأرضه.

كيف ينظّم الفلسطينيون أولوياتهم أمام هذا المشهد وفي ظل موازين القوى السائدة؟ لكي تستقيم الصورة الشمولية من المنظور الفلسطيني من الواضح أن المسعى يجب أن يكون لقلب المعادلة، أي لتعزيز وحدة وهوية الشعب من جهة (منعاً لسياسة تذويبه وتفكيكه)، ولتفكيك النظام العنصري من الجهة الأخرى (منعاً لسياسة تعزيزه). ليس الأمر هيناً ولكنه ليس مستحيلاً! ويتطلب التعقل في اختيار المسارات والحنكة في تصريف الأمور. بالنسبة للاجئين مثال فالتحدي الأساسي يجب أن يكون تكثيف أساليب الحفاظ على الهوية والسردية من دون السماح بتكرار مأساة معيشتهم التي عاشوها ويعيشونها وإلى أجل غير محدود، وإيجاد المعادلة المناسبة لتجاوز ذلك، بالتعاون مع الدول المضيفة بما يضمن استقرار تلك الدول وأمنها الوطني. نتكلم هنا عن تعزيز الهوية بمعزل عن حياة المخيمات ودورها التاريخي والنضالي في إبقاء القضية حية، وعن تطوير مكانة الفلسطيني اقتصاديا وعلمياً بعيداً عن التقييدات التي كان يخضع لها. أما بالنسبة للداخل فالتحدي الأساسي سوف يكون ايجاد تلك المعادلة أو المعادلات لاستمرار وتعزيز صمود السكان حملة الجنسية الإسرائيلية، أو الهوية الفلسطينية تحت السقف السياسي والأمني الإسرائيلي، وتنويع وتفعيل أساليبهم في المقاومة السلمية والسياسية ضد ذلك النظام العنصري إلى أن يبدأ بالتفكك. قد يتأتى ذلك من خلال وسائل مختلفة، قد لا تستثني اتفاقات فدرالية أو كونفدرالية في مراحلها التي قد تستغرق عقوداً؛ كما قد لا تستثني تفاعل داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه الذي يتكون من أكثر من خمس مجموعات لها خلفياتها اللغوية والتاريخية والحضارية المختلفة، وأوضاعها الاقتصادية المختلفة، والتي تتناحر فيما بينها، في حين أن شعبنا بمسيحييه ومسلميه شعب واحد وبحضارة واحدة.

في النهاية يجب أن يعمل الفلسطينيون جميعاً، وأينما كانت أماكن تواجدهم على تعزيز الهوية الواحدة، وقضيتهم الواحدة وعلى تمسكهم بأرضهم الواحدة. لن تكون المرحلة القادمة كسابقاتها، ولا يمكن، بل ولا يجب أن تكون استراتيجيات العمل الفلسطيني نسخة مكررة من الماضي، بما له وما عليه، بل يجب استقراء حركة التاريخ كما هو، وليس كما نتمنى ويجب التعامل معها استراتيجياً، أي من منظور الخريطة الفكرية طويلة الأمد التي يجب على القيادة والنخب الفلسطينية وضعها، للحفاظ على صمود الشعب وقدرته في المساهمة الوطنية كيفما اتفقت إمكاناته وظروفه… حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا!

* كاتب ومفكر فلسطيني

Leave a Comment