اقتصاد

كيف لحكومة “معاً للإنقاذ ” أن تنقذ اللبنانيين من ورطة الانهيار الشامل؟ 

كتب محرر الشؤون الاقتصادية

باشرت الحكومة ومصرف لبنان المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، فيما توجه رئيس الحكومة إلى باريس والتقى الرئيس الفرنسي ملتمساً دعمه. وما سمعه ميقاتي من ماكرون سبق وكرره أكثر من مسؤول فرنسي ودولي. وملخصه عليكم أن تبدأوا بالاصلاحات وبعدها يتم درس سبل ووسائل تأمين الدعم. والاصلاحات التي سبق وتكررت هي بيت القصيد المفقود في سياسات الحكومات اللبنانية المتعاقبة، بالنظر إلى أن هاجس الوزراء كممثلين للطبقة السياسية المافياوية التي تسببت بانهيار الاقتصاد اللبناني، كان ويبقى هو التعمية على المسؤولين عن الكارثة، التي يعاني منها اللبنانيون والمقيمون على الاراضي اللبنانية من لاجئين فلسطينيين وسوريين وعمال أجانب. ولذلك ظلت البلاد تدور في حلقة مفرغة لا مجال للخروج منها وعلى أحكامها. والدليل أن “المشاريع الاصلاحية” الداخلية منها والخارجية لم تتقدم خطوة واحدة إلى الأمام في السنوات الماضية. ولا داعي للتذكير هنا بمقررات مؤتمر سيدر وتوصيات صندوق النقد والبنك الدولي، فضلاً عن الجهات التي جاءت بطلب من الدولة اللبنانية نفسها لدراسة الوضع، وتكلفت ملايين الدولارات، وبقي ما أوصت به من خطوات حبيس الادراج، ولحق مع ما سبقه من موجودات الارشيف اللبناني. ونضيف إلى كل هذه المُدد المهدورة ثلاثة عشر شهراً من الفراغ الحكومي.

والغريب أن تراكم التردي في الاقتصاد اللبناني رأى فيه وزير الخارجية الأسبق رئيس التيار الوطني الحر وصهر العهد يوماً مفخرة، ودرساً يجب أن يتعلمه الاميركيون والفرنسيون وغيرهم من دول العالم المتقدم في كيفية إدارة بلاد دون ضرورة لإقرار موازنة عامة.  غير أنه وعندما أفلست البلاد لألف سبب وسبب ثار مع أمثاله من فريق الحكم والمتحكم بزمام الأمور، ورفعوا عقيرتهم بالصراخ حول الحصار الاميركي المفروض، بل والدولي والعربي على لبنان، كسبب للكارثة التي تتجلى بأشكال متعددة على المستويات المالية والنقدية والاقتصادية والمعيشية.

وفي التمهيد للبحث مع صندوق النقد وسواه، قررت الدولة أمرين أولهما رفع الدعم تدريجياً كما هو حاصل فعلياً في أسعار المازوت والبنزين والأدوية وغيرهما، وثانيهما استمرار الارتهان للخارج والحصول منه على قروض إضافية بأي ثمن لتسيير العجلة المتوقفة ريثما “يخلق الله أمراً كان مفعولاً”، فلا البنك الدولي ولا صندوق النقد ولا اميركا ولا فرنسا مستعدة لتقديم “شيكات على بياض”، بعد أن خبرت كذب وعود المسؤولين بالاصلاح لسنوات متلاحقة. إذ هناك جملة اشتراطات يجب أن تتأمن كي يتم تقديم قروض. وهي اشتراطات في السياسة والاقتصاد والقضاء والأمن والإدارة العامة وغيرها. وكل هذه المجالات مرت مرور الكرام في  وعود المسؤولين سواء في بيان الحكومة لنيل الثقة، وكذلك في المواقف والتصريحات التي يدلي بها المسؤولون، كالتي وعدنا بها الرئيس عون  أن يكون العام الأخير من عمر العهد هو عام الاصلاح. وفي مثل هذا الوضع يستمر الانهيار على شتى الصعد. فالكهرباء العامة وهي بمثابة من مفاتيح الصمود الاقتصادي ما تزال في عهدة من أهدروا السنوات وعشرات المليارات أو ما يعادل نصف أموال عجز الدولة. ولن يتخلى هؤلاء عن مكتسباتهم فيها من خلال الشركات المقدمة للخدمات التي جرى إدخالها إليها لتقديم الخدمات، فكانت النتيجة استمرار التراجع في التغذية وتردي الخدمات للمواطنين وتأمين تمويل خزائن مرجعياتهم السياسية. حتى بات اعتماد المواطنين على المولدات لتدبير شؤونهم اليومية وبأسعار تفوق الخيال. وصار باريم الأسعار للكيلوات التي تقرره وزارة الطاقة في خبر كان، بعد أن تضاعفت أسعار المحروقات المفقودة في السوق الطبيعي، ومتوافرة في السوق السوداء ياسعار مضاعفة. وبالطبع في غضون تلك السنوات لم يتقرر بند اصلاحي واحد لا على صعيد الهيئة الناظمة ولا على صعيد مجلس الإدارة وقس على ذلك. وسبق للمجتمع الدولي والصناديق العربية أن قدمت دراسات وتعهدات بحل المشكلة سواء عبر عرض شركة سيمنز الالمانية، أو الصندوق الكويتي للتنمية لتمويل تحديث معامل التوليد وغيرها من متطلبات عبر قروض ميسرة وطويلة الأمد. هذه العروض وسواها جرى الالتفاف عليها كي لا تتم خسارة “الدجاجة التي تبيض ذهباً” ممثلة بسمسرات الصفقات المشبوهة. وتوافر الطاقة الكهربائية مفتاحي. وعن وضعها الكارثي تولدت سلسلة أزمات ابرزها دون منازع موضوع أسعار المحروقات وبالأخص المازوت. فالبنزين تضاعف سعره في غضون عام واحد أكثر من 800%، والمازوت كمشغل للمرافق والمؤسسات بات مصدره الوحيد السوق السوداء وبأرتفاعات تعادل ما حققه سابقه فرفع الدعم عنه لا يعني توافره بالسعر المحدد. والأدهى أنه في ظل ندرته في السوق كما هو حاصل اليوم ، وحصره في مستودعات المهربين والمحتكرين، يستعد سكان المناطق الجبلية لاستقبال فصل الشتاء دون توافر المادة التي تعادل الخبز بالنسبة لهم في ظل البرد القارس. هذا عدا النتائج الكارثية لفقدانها بالنسبة للمستشفيات والمدارس والجامعات والأفران والمطاحن والمصانع والمزارع وبرادات الخضار والفواكه ومخزون المواد الاستهلاكية في السوبر ماركت والأليات الزراعية والنقل الثقيل وغيرها.

وعلى الرغم من تعهد الحكومة بأن المفاوضات مع صندوق النقد والبنك الدولي والدائنين من بنوك أجنبية فيما يعرف باليوروبوند جادة وجدية، الا أن معضلة الاقتصاد تتمثل بحاجته الماسة إلى جراحات خطيرة في جسده المنهك. إذ المعضلة الكبرى هي سياسية في المقام الأول. فاذا كانت الاصلاحات الهيكلية هي ما يطالب به صندوق النقد، فكيف يمكن القيام بها مثلاً في مرفأ بيروت حيث المحاصصة مقدسة وقائمة ومعترف بها، وتدر على المستفيدين ملايين الدولارات سنوياً من خلال تراكيب أقل ما يقال فيها أنها مصممة ومصانة على هذا النحو كي تدور عجلة نهب المال العام، وتتدفق الأموال على الجهات النافذة تبعاً لنظام المحاصصة المعتمد. وهو ما لا يقتصر على هذا المرفق الذي تعرض لانفجار مدمر بفعل متاهة هذه التركيبة ونتيجة لها. والآن يجري البحث عن إيجاد مخرج قضائي أو أمني لإبعاد المحقق العدلي عن التحقيق بالجريمة والمتسببين بها، كي تتواصل الجريمة وإن بأشكال أكثر تمويهاً. وما يصح على المرفأ يصح على المطار والمعابر الشرعية وغير الشرعية. ولعل أبلغ دليل على عجز الدولة أمام دويلة حزب الله هو ما عبر عنه رئيس الحكومة الذي أعرب عن حزنه لمشهد قوافل صهاريج الحزب بالنفط الايراني تدخل دخول الفاتحين البلاد، دون أن يسأل أحد كيف مرت على الحدود، وهل دفعت الجمارك، وهل أخذت إذنا من وزارتي الداخلية و الطاقة، وجرى فحص عينة من حمولتها ووجدت مطابقة للمواصفات المعتمدة وغيرها.. وبالطبع هذا غيض من فيض. ودون أن نستفيض يمكن القول إن المعضلة الفعلية مصدرها الأساس ما آل إليه الوضع من اهتراء وتحكم ومحاصصة وجعل من مالية الدولة والمال العام مستباحاً على هذا النحو، وتجاوزه فوصل إلى المال الخاص للمودعين في البنوك من مواطنين ومغتربين الذين تتسرب اليوم أموالهم عبر تمويل الدعم في قوافل المهربين إلى سوريا دون أن يرف جفن لمسؤول، وتخزَّن في مستودعات وعنابر المحتكرين كي ترتفع أسعارها، وما يجري دفعه لهم لا يتعدى العشرين من قيمتها الفعلية في ممارسة هيركات غير معلن. كل هذا يطرح أسئلة كيف لحكومة الميقاتي التي أسمت نفسها “معاً للإنقاذ” أن تنقذ الوضع، وهي التي لم تختلف مرجعية وهندسة وإخراجاً عن حكومة حسان دياب، وما هي الشروط التي سترضخ لها والشروط التي لا تقبل بها الأطراف والقوى المقررة مع المفاوضين الدوليين. ومن هي القوى المستعدة لتسهيل مهمتها والتخلي عن امتيازاتها وهي أساس “انتفاخها الداخلي والاقليمي” معطوفاً على الدفاع بالأسنان عن منظومة الفساد التي باتت جزءاً مقرراً بينها جميعاً؟

يأتي تشرين هذا العام واللبنانيون عُراة الا من الوعود العرقوبية تغدق عليهم عبر ديباجة بلاغية، يفتقدون ما تعودوه من مونة للشتاء، إذ هم بالكاد يتدبرون طعام يومهم، فيما معظم العائلات إختصرت وجبات طعامها إلى واحدة أو اثنتين. أما الأدهى فهو ما يتعلق بالعام الدراسي ليس على صعيد الجهاز التعليمي الذي لا يستطيع أن يتدبر أمر وصوله إلى المدارس نظراً لضآلة راتبه الذي لم يعد يكفي لأسبوع واحد، وإنما على صعيد الإدارات التي لا تعرف كيف يمكن لها أن تؤمن الطاقة في ظل فقدان المازوت ودفع المرتبات لأفراد الهيئتين التعليمية والإدارية في المدارس الخاصة وسط عجز الأهل ومديونيتهم السابقة. وكذلك الأهل الذين لا مال لديهم لدفع رسوم وأقساط أبنائهم وشراء الكتب والقرطاسية ودفع أجور النقل لإيصالهم إلى مدارسهم. ولا أحد يتحدث عن المستلزمات الإضافية كالثياب وما شابه مما يفرضه الشتاء. ويبقى الأهم وهو ما ليس في وارد الحكومة وفريقها المفاوض وهو التالي: من يدفع ثمن الافلاس والانهيار المالي والنقدي الذي تعانيه الليرة التي خسرت بموجبه حوالي 90% من قدرتها الشرائية ؟ هل تدفعها المصارف التي سهلت نقل أموال النافذين إلى الخارج، وشبكة المافيات المستفيدة من الانهيار، أم يدفعها المعدمون الذين تركتهم الأزمة ينتظرون أن يرسل لهم أبناؤهم بحفنة من الدولارات لتأمين الحد الأدنى من نفقاتهم الضرورية؟

الجواب على السؤال لا يحتاج إلى كبير اجتهاد، وتؤكد الوقائع أن نهب اللبنانيين سيتواصل دون أن تنهض قوى معارضة فعلية موحدة وذات برامج واضحة تفرض على من تسبب بالكارثة أن يدفع ثمن الإنقاذ أولاً والنهوض ثانياً. وهو أمر كما هو واضح غير متوافر إلى الآن. أما انتظار الانتخابات النيابية لتأتي بالتغيير من السماء فيدخل في باب الرجم بالغيب، نظراً لحال التهالك والتشتت التي تعيشها معظم مجموعات الانتفاضة التي تتصور أن الجمهور بانتظار ظهورها على المسرح ليتغير كل شيء. وهذا “حصرم رأيته في حلب “.

 

 

 

 

 

Leave a Comment