صحف وآراء مجتمع

كتاب”ذاكرة ليست تمضي” للمناضلة وداد حلواني: عندما يتحول الغياب وفقدان الحبيب جرحا مفتوحا

زهير هواري

 بيروت 30 ايار 2025 ـ بيروت الحرية

أصدرت دار الساقي كتابا يحمل عنوانا هو: ” ذاكرة ليست تمضي – ما لم أقله ” لرئيسة لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين المناضلة وداد حلواني. والذاكرة التي ليست تمضي هي ذاكرة خطف زوجها ورفيقها وحبيبها المناضل عدنان حلواني يوم 24 أيلول من العام 1982. أي في غضون تلك المرحلة مع كل ما تخللها من أحداث متسارعة أبرزها سيطرة إسرائيل بجيشها واستخباراتها على العاصمة اللبنانية بيروت بجميع مفاصلها. و حدث مصرع الرئيس المنتخب بشير الجميل ومجزرة صبرا وشاتيلا المروعة، وإعلان قيام جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية كعلامة مضيئة في ذلك الليل الأسود. وعدنان حلواني لمن لا يعرفه هو عضو في المكتب السياسي لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان، منظمة العمل اليساري الديمقراطي العلماني حاليا، وعضو المجلس المركزي  للحركة الوطنية  في مدينة بيروت. وكلاهما قد لا يعنيان للكثيرين اليوم. لكن يجب توضيح أهميتهما في تلك المرحلة من خلال الإشارة إلى أن عدنان حلواني تحددت مهمته النضالية وبيروت بكسر الحصار الذي يمنع عنها قطرة الماء ورغيف الخبز ووسط زخات القصف الإسرائيلي الذي لا يتوقف. اذن تحددت مهمته في تأمين توفير التموين والمحروقات للمدينة المحاصرة وأهلها. وبالأخص تأمين الطحين أي الخبز اليومي للناس المحاصرين، وتوفير المازوت للافران والمستشفيات على نحو أخص.

ومن المعروف أن الغارة الإسرائيلية الأولى التي أعلنت افتتاح الغزو في الخامس من حزيران صيف العام 1982 الذي وصل لاحقا إلى العاصمة، استهدفت تدمير مستودعات الطحين التي تم وضعها تحت مدرجات المدينة الرياضية في العاصمة بيروت. المهم أن عنصرين قد يكونا من مخابرات الجيش اللبناني أو من ميليشيا حزب الكتائب نفسه هما من قصدا منزل المناضل حلواني في منطقة رأس النبع على مقربة من المتحف كخط فاصل يومها بين بيروت الشرقية والغربية. المهم أن هذين العنصرين ادعيا أنهما من المخابرات اللبنانية وأبرزا بطاقتيهما الرسمية، وأنهما سيوجهان له عددا من الأسئلة في مدة لا تتعدى الخمس دقائق يعود بعدها إلى بيته وعائلته. إذن جرى انتزاع عدنان حلواني من بيته، من عائلته وزوجته وطفليه وإخفائه.

ومنذ ذلك الحين جابت وتجوب زوجته المناضلة وداد حلواني شوارع المدينة ومراكز ومقار المراجع الرسمية وغير الرسمية وقاعات المنظمات الأممية والدولية بحثا عن حبيب مفقود لا تعثر على أثر له. لكن قضية عدنان لم تكن ولا يمكن أن تكون قضية مفردة، ففي أعقاب النداء الذي وجهته وداد لمن هن أمثالها من أمهات وزوجات وأخوات المخطوفين للتجمع تبين تباعا حجم الظاهرة، ظاهرة الخطف والإخفاء القسري والتي طالت حوالي 17 ألف مخطوف ومفقود. القسم الأكبر منهم قامت الميليشيات اللبنانية المتصارعة بإنكار المسؤولية عن خطفهم، بينما البعض الآخر قامت القوات السورية بنقلهم إلى سجونها في صيدنايا والهامة ودمر وفرع فلسطين وعدرا وغيرها وإنكار وجودهم في زنازينها هي الأخرى.

المهم أن وداد التي سبق وتعرفت على عدنان كطالبين في كلية التربية في الجامعة اللبنانية، التي كانت تتولى إعداد أساتذة المرحلة الثانوية للإدارة التربوية في وزارة التربية والتعليم العالي، قررت بعد هذه السنوات الطويلة أن تفتح صدرها لتروي تجربتها التي استهلكت سنوات مديدة من عمرها وسط تحولات الزمن، كما أعمار كثيرات غيرها رحلن مع غصة حملنها إلى قبورهن نتيجة عدم العثور على أحبتهن في أقبية قوى الحرب الاهلية.

كل الجهود التي بذلنها وداد ورفيقاتها لم تثمر عودة ولو مخطوف واحد من المصير المجهول الذي تعرض له. هناك جانب يتجاوز قسوة الميليشيات وفاشيتها ورفضها تحمل المسؤولية ولو بالاعتراف بارتكاب الجريمة وإذاعة مكان المخطوف طوال سنوات المحنة التي مرت على لبنان كعاصفة من النار بما فيها ما يسمى سلام ما بعد اتفاق الطائف، وهو يتعلق بمسؤولية المسؤولين الذين تعاقبوا على الحكم، وغضوا الطرف عن هذه العصابات التي خلعت ثيابها العسكرية وارتدت البذلات وربطات العنق، بعد أن انتقلت من الخنادق والمتاريس إلى المناصب الرسمية حيث باتت تحمل رتب الوزراء والنواب والمديرين العامين وغيرها من إدارات مؤسسات الدولة السياسية والإدارية، وتركب سيارات ذات زجاج داكن تتستر على من هم داخل المركبة.

وداد لا تحكي عن هؤلاء الرافضين مجاراة ومواكبة الوجع الذي عاشته وتعيشه تلك النسوة المفجوعات أمام هول مصابهن، فاحبتهن لا يعرفن عنهم شيئا.  لذلك لا تملك سوى أن تكتب له الرسائل. رسائل تعرف أنها لن تصل إليه، مع ذلك فهي تتلقى منه أجوبة على ما لا يحمله لها ساعي البريد، فلا هم متوفين ليمارسوا الحداد عليهم، ولا هم أحياء ليعودوا إلى أهلهم وأحبتهم الذين يتلهفون ليسمعوهم يطرقون باب العودة إلى بيوتهم المجللة بالحزن والفقدان والأنين. ووداد لا تكتب نصا أدبيا بقدر ما تميط اللثام عن جرحها وجراح أمثالها وتكشفه للملأ بعد هذه الرحلة من النضال العبثي بفضل وهمة مسؤولينا.

تروي وداد حلواني تجربتها مع الحب، حب عدنان، حب الشباب والعلاقات مع الأهل في جانبي المعادلة، أهلها وأهل عدنان، وكم أغرمت به وكيف كانا يحتالان على الوالدين ليتدبرا لقاءاتهم المسروقة تحت شجرة تين على شاطيء بحر الهري في شمال لبنان. وكيف استطاعت الصمود كل تلك السنوات وتجاوز المحنة كرمى لعيون زياد وغسان وأمها وأم عدنان وباقي افراد العائلتين ورفاقه. الصمود في مواجهة سلطات أقل ما يقال عنها أنها مضمخة بالعجز والنكران  من رأسها حتى أخمص قدميها، بدليل إيقافها راتب عدنان من التعليم مباشرة بعد خطفه كونه “تغيب عن عمله دون عذر شرعي”. النص الذي قدمته وداد للقراء مؤثر ومعبر بما يجعل الدموع تفر من المآقي أمام قسوة الحروب الاهلية، وما يترسب عنها من مآس تطحن الأحبة كبارا وصغارا.

تكتب وداد عن قسوة تتجاوز عدنان لتطال الألوف من الأمهات والأخوات اللواتي تقطعت أرجلهن وأنفاسهن وهن يركضن لاهثات في شوارع المدينة، يطرقن كل الأبواب بحثا عن أحبتهن، ولكن دون جدوى. بالطبع أهمية القضية قضية المفقودين والمخفيين قسرا أنها تقطع مع وهم سراب السلام القائم، لأنه دون مصارحة ومحاسبة المرتكبين ومسامحتهم لا أمل بالشفاء من وباء العنف الأهلي الذي يدق على جدران الوطن كل عدة سنوات فيحيل يومياته جحيما ملتهبا بالألم. فاحترام قيمة الانسان تتطلب أولا وقبل كل شيء إماطة الثام عن مصير كل فرد من هؤلاء، الذين وقعوا ضحية ايمانهم أن واجبهم يحتم عليهم العمل على تأمين خبز الأطفال وكبار السن وتشغيل المولدات في غرف العمليات والمرضى. وأنهم ليسوا طرفا في هذا الاقتتال الذي يقسم ويقصم ظهر البلاد والمدينة والناس، وأن الانتقال بين المناطق والوصول إلى أماكن عملهم وأشغالهم هو من حقوقهم البديهية كبشر، في دولة يُفترض بها أن تتحمل مسؤولية أمن وسلامة أبنائها والمقيمين على ارضها.

يصعب تماما تلخيص كتاب وداد.  لأن الوجع لا يمكن له أن يتلخص بكلمات وجمل وصفحات مجبولة بالجرح النازف. الوجع، وجع الفقدان تشعر به بكل جوارحك وأنت تستعيد تلك التراجيديا البشرية التي لمّا تنتهي بعد، رغم ما شهده كل من لبنان وسوريا من تغيير. استعادة المخفيين قسرا حتى ولو كانوا مجرد أجزاء من هياكلهم العظمية يمنح الباقين أحياء حقهم في اعتبار مصائرهم أمرا يستحق الاهتمام ليس من جانب دولتهم فقط، بل ومن جانب المجتمع المدني أيضا. إذ لا يمكن لأحد أن يدعي أن بإمكانه طي صفحة الحرب بينما مصير هؤلاء يظل معلقا في منزلة بين منزلتي الحياة والموت، الحضور والغياب، الأمل واليأس، بين العودة والرحيل النهائي.