سياسة مجتمع

قوى المعارضة واليسار وتحديات الرؤية للأزمة والقدرة على المواجهة

زكي طه

كما كان متوقعاً، لم تفلح تمنيات اللبنانيين ورغباتهم بمناسبة الاعياد، في دفع أركان الطبقة السياسية الحاكمة للتوقف عن متابعة ما كان دأبهم طوال الاعوام السابقة من سياسات، وما يقع في امتدادها من مكائد ومناورات حول مختلف قضايا البلد وأزماته المتناسلة. والسبب الرئيس في ذلك أن جداول أعمالهم تحدده مواقعهم الطائفية وتقرره مصالحهم الفئوية، وليس أي شيء آخر. ولذلك لم يكن مفاجئاً أن يُجبر اللبنانيون رغم الاعياد، على متابعة مسلسل الفضائح والسجالات المبتذلة ، في موازاة تبادل تهم التعطيل باعتباره نهجاً معتمداً من قبل سائر الاطراف، على نحو يتساوى فيه استحقاق الرئاسة وتشكيل الحكومة، ومهام حكومة تصريف الاعمال وآليات القيام بها، والدور التشريعي للمجلس النيابي، مع ملفات الكهرباء والدواء والتعليم و… كما يضاف لها ما يجود به حاكم المصرف المركزي من مذكرات تنظيم وتشريع نهب مداخيل اللبنانيين وما تبقى من مدخراتهم وودائعهم عبر ما يسمى “منصة صيرفة”. أما فضائح الدوائر العقارية في بعبدا وعالية والجنوب وإدارة السير في الدكوانة والاوزاعي، فهي ليست سوى عيّنات محدودة عن الفساد الاداري، الذي يقيم سعيداً برعاية قوى السلطة في جميع دوائر الإدارة العامة. ولم يكن عجز القضاء سوى ذريعة لمجيء بعثة قضائية اوروبية للتحقيق في ملفات الفساد المالي في القطاع المصرفي وبعض الدوائر الادارية الرسمية.

ليس مستغرباً أن يتصرف اركان الطبقة السياسية على هذا النحو من الاطمئنان وعدم الاكتراث لأوضاع أكثرية اللبنانيين، دون أي اهتمام بالتحذيرات التي تصدر عن الجهات الدولية حول مخاطر الفراغ، وشلل مؤسسات الدولة، والانهيار والفوضى الاهلية، واحتمالات انفجار الوضع الاجتماعي، جرَّاء تردي الاحوال على جميع المستويات على نحو كارثي. هذا عدا تجاهل ما يتواتر من اخبار حول احتمالات اقرار عقوبات جديدة تطال المتهمين بتعطيل الاستحقاق الرئاسي، وإقرار الاصلاحات المطلوبة التي تكرر الالتزام بها.

من المؤكد أن قوى السلطة تمارس سياسة تقطيع الوقت بانتظار تسوية خارجية لا تزال في علم الغيب. ولذلك يتواصل افتعال العراقيل حول جميع الملفات وتعطيل البت بها بذريعة الصلاحيات، وسط إدامة ضجيج المعارك حول الادوار الفئوية والعلاقات بين سائر الاطراف. والغاية هي التضليل والتعمية حول المسؤوليات عن أوضاع البلد واحوال أهله. وما اسلحة التحريض الطائفي والفئوي، ونبش الماضي وتمجيد الذات وادانة الآخر، الا للتغطية على غياب الحد الادنى من المسؤولية الوطنية والانسانية.

ولأن الهيمنة والاستقواء وتكريس السيطرة الطائفية والفئوية لا يمكن لها أن تتحول أمراً واقعاً إلا وفق معادلة: “ما لنا لنا، وما للآخرين لنا ولهم”. فقد اصبح التعطيل المتبادل بذريعة الصلاحيات المُدعاة، نهجاً معتمداً ومكرساً ضمن آليات الحكم وممارسة السلطة. وعليه وصلت جميع الاستحقاقات إلى طرق مسدودة، يتعذر معها امكانية الخروج من أحكامها المقفلة على التسويات والاصلاح معاً. وللتنصل من المسؤولية كان من الطبيعي أن تتكرر الدعوات للحوار والتوافق، فيما يتنافس سائر الاطراف على اعتماد سياسات حافة الهاوية، وتتوالى المناورات التي يمارسها كل طرف سعياً منه لتجاوز مأزقه الفئوي، ومحاولة إجبار الآخرين على الرضوخ لمطالبه والتسليم بسياسة الامر الواقع.

ورغم الانعكاسات السلبية لهذا الأداء، وتزايد الصعوبات والتحديات بوجه اللبنانيين، فإن تيارات السلطة واحزابها، لا تزال ترى فيها ميادين للاستثمار. ولذلك تتعمد استغلالها لتحصين مواقعها وتعزيز قدرتها على المناورة في مواجهة بعضها البعض. أما ابرز النتائج المترتبة فهي تزخيم الانقسامات الاهلية، وتعزيز مناخات التقوقع الطائفي والمناطقي والعزلة ورفض الآخر وعدم التواصل بين اللبنانيين، واستسهال الهروب إلى الخيارات المستحيلة والتدميرية في آن. ولذلك تتعدد صيغ المطالبة باعادة النظر بآليات الحكم، وتوزيع السلطة، وتشكيل ادارات الدولة وفق وجهة تفكيكية، خلافاً للدستور واتفاق الطائف، بدءاً من اللامركزية الادارية والمالية إلى الفدرالية مروراً بالتقسيم، والمطالبة بمؤتمرات دولية حول لبنان، في موازاة سياسات الفرض والاخضاع والالحاق بالاستناد إلى فائض قوة السلاح الاهلي، وسط تبادل تهم التخوين والتآمر مع الخارج.

وما يعزز اطمئنان قوى الطوائف المأزومة، معرفتها بعوامل ومصادر قوتها وما لديها من اسلحة وكفاءة مكنتها من تعطيل مفاعيل الضغوط الخارجية والحصار الاقتصادي على لبنان، وافشال جميع محاولات اعادة تأهيلها ودفعها لتنفيذ اصلاحات لا مصلحة لها فيها، وعدم الاكتراث للعقوبات التي طالت بعض رموز السلطة وحسب. بالاضافة إلى تبدل اولويات الجهات الخارجية على الصعيدين الدولي والاقليمي وتراجع الاهتمام بالملف اللبناني.

غير أن السبب الأهم، كان ولا يزال يتمثل في عجز قوى ومجموعات المعارضة  نظراً لهشاشة بنيتها وهامشية موقعها الاجتماعي. علماً أن تشابه الشعارات والبرامج العامة لا يحول دون المفاعيل السلبية لقصور قراءاتها لأزمات البلد، وعدم التوافق على تحديد المسؤوليات عنها وسبل الخروج منها. وما أبقاها موضع استهانة، هو النجاح السهل لقوى الطبقة السياسية في اجهاض انتفاضة 17 تشرين المجيدة واحتواء مفاعيلها. يؤكد ذلك المحصلة التي انتهت اليها، والنتائج المحدودة لمعركة الانتخابات النيابية، وتشرذم نواب “التغيير”، واحوال قوى المعارضة ومجموعاتها العاجزين جميعاً عن الفعل والتاثير في مواجهة اطراف السلطة، التي تستاثر بالمشهد السياسي بعد نجاحاتها المحققة، في تحصين مواقعها، وتجديد قدرتها على التلاعب باوضاع البلد ومتابعة الاستخفاف بالضغوط والعقوبات الخارجية، كما بحقوق ودماء ضحاياها، واستباحة كرامتهم دون أي رادع اخلاقي انساني أو وطني.

من المؤكد أن تفكك وانهيار بُنى البلد بشكل مريع وعلى كل المستويات، هو نتاج أزمة إعاقة تطوره كياناً وهوية وطنية، وحياة سياسية اقتصادية اجتماعية، وعلاقات خارجية على امتداد مائة عام. ومصدرها معضلة الكيان اللبناني في إنقساماته الاهلية الموروثة، وفي نظامه السياسي والهيمنات السابقة والراهنة، التي تحكمت ولا تزال بأوضاعه وبطبيعة دوره  الاقتصادي وارتباط أوضاعه بمحيطه العربي والاقليمي، موصولاً على الدوام بالوضع العالمي. يعني ذلك أن البلد ما زال يجتاز مخاضاً عسيراً يتعلق بقدرته على كسر قيود الاقامة في دوائر الانقسام الاهلي والتخلف، وعلى طريق العجز عن التقدم نحو تطور رأسمالي اقتصادياً وليبرالي سياسياً وثقافياً وأيديولوجياً.

إن الاقرار بهذا الواقع لا ينطوي مطلقاً على دعوة لليأس والقبول بالأمر الواقع. إنه محاولة لتحديد المستند الاساسي لوجهة المساهمة المطلوبة والمجدية في صياغة مشروع الجواب على أزمات البلد، ومأزق وحدته وتطوره وطبيعة الحركة السياسية التي يحتاجها راهناً. الحركة التي بإمكانها كسر الحلقة المفرغة، ومواجهة انسداد الافق القائم في سبيل انقاذ الكيان اللبناني وبقائه وطناً قابلاً للحياة.

وبالقدر ذاته هي دعوة متجددة لقوى المعارضة الديمقراطية إلى مغادرة التذرع بالصعوبات وتحمّل مسؤولياتها في سبيل بناء وتاسيس هذه الحركة التي لن تتشكل عفوياً. إن التحصن بالشعارات الفضفاضة، لا يشكل مخرجاً من عسر ولادتها المؤكد. خاصة في ظل انغلاق الطبقة السياسية ببنية قواها الطائفية. بالاضافة إلى أوضاع واشكاليات قوى المعارضة المتحدرة من تجارب فاشلة، والتي لا تختلف عنها احوال المجموعات المتشكلة حديثاً وما رافقها من استسهال وتبسيط، كما كان الأمر مع انتفاضة تشرين. ولأن السائد بين تلك القوى اضافة إلى سوء التفاهم، الانكار المتبادل والتفرد والفئوية وعدم الانفتاح على الحوار، هو غياب الرؤية الموحدة للأزمة والعجز عن الفعل في مواجهة الواقع الصعب.

إن تأسيس وبناء حركة ديمقراطية مجتمعية تعددية، قادرة على تجاوز معضلات الديمقراطية اللبنانية، نظاماً وحركة سياسية ودوراً اقتصادياً وبنية مجتمعية مأزومة والتجارب الفاشلة، يستدعي دوراً أساسياً مبادراً وفاعلاً لم يزل مفقوداً. دور يقع على عاتق تنظيمات اليسار الديمقراطي والقوى الفاعلة والمتضررة صاحبة المصالح الفعلية في بقاء البلد أولاً. وهي القوى التي يُفترض أنها تمتلك امكانية البحث والتوافق على قراءة واقعية لأوضاعه، وانتاج رؤية انقاذية واولويات برنامجية، إلى جانب إرادة العمل لإعادة انتاج تلك الحركة المجتمعية، باعتبارها المهمة الرئيسية المقرِّرة لامكانية انقاذ البلد والنهوض بمجمل قضايا تطوره الديمقراطي كياناً وطنياً واقتصاداً ومجتمعاً حديثاً. وعليه يتجدد تحدي الاقدام والمبادرة ومغادرة قصائد تمجيد الماضي وانتظار المجهول.

Leave a Comment