سياسة

قمة تطبيع الأنظمة العربية الحاكمة مع الأزمات والتدخلات الخارجية

  زكـي طـه    

بيروت 18 أيار 2023 ـ موقع بيروت الحرية

 تنعقد القمة العربية هذا العام في العاصمة السعودية، وسط تحولات عربية وإقليمية ودولية مشرعة على شتى الاحتمالات. الأبرز فيها  تحول المنطقة ساحة مفتوحة لجميع اشكال التدخلات الخارجية. نتج عنها الاتفاق السعودي ـ الايراني، الذي اشاع مناخات للتهدئة بين الطرفين، وحول الازمات التي يتشاركان التدخل فيها. في المقابل يتعثر التطبيع التركي مع أكثر من دولة عربية نظراً لاستمرار الاشتباك السياسي والعسكري معها.. كذلك تنعقد القمة في ظل تواصل التطبيع مع اسرائيل، وتراجع التضامن العربي مع قضية فلسطين، وتضحيات شعبها ونضاله دفاعاً عن وجوده وحقوقه الوطنية على ارضه، وفي مواجهة  الحصار وتصاعد العدوان الاسرائيلي، وانفلات المشروع الاستيطاني المرعي اميركياً. والإكتفاء بدور الوساطة للتهدئة، سواء في غزة أو الضفة الغربية، مقابل الصمت حيال التدخلات الايرانية والتركية التي تستثمر في الانقسام الفلسطيني.

صحيح أن القمة العربية تنعقد برعاية السعودية، التي تطمح لأن تتصدر المشهد العربي بدعم من دول الخليج المتنافسة بقوة مواردها المالية، على رافعة انفتاحها الشكلي وسياساتها الاقتصادية والتنموية وعلاقاتها الدولية المتنوعة. وهو دور افتقدته منظومة الدول العربية منذ أن اندلعت الانتفاضات الشعبية في العديد من البلدان العربية. وهي انتفاضات اسقطت أو حاصرت الأنظمة الحاكمة فيها، والتي رفضت الاستجابة للحد الأدنى من مطالبها، كما فشلت في السيطرة عليها. بالمقابل أطلقت “محرقة” الحروب الأهلية لشعوبها لوأد تطلعاتها الديمقراطية.

ولأن أي من الانتفاضات لم يكن لديها مشروع سياسي للاصلاح وبناء دولة القانون والمؤسسات تسنده قوى ذات وزن اجتماعي فعلي، فقد ادت اندفاعة الانظمة الحاكمة إلى خوض معارك بقائها، عبر استدراجها إلى العنف، والدفع بمجتمعاتها إلى التفكك والاقتتال، وادخالها في حروب مفتوحة تشكل الانظمة الحاكمة، أو بقاياها أطرافاً  أساسية فيها في مواجهة خصوم الداخل، وسط استهسال الجميع الإستقواء بالخارج، وتحويل  بلدانها ساحات مشرعة لشتى انواع التدخلات الاقليمية والدولية، الساعية لتنفيذ استهدافاتها في المنطقة،  بالاستناد إلى مصالحها المتباينة والمتناقضة تبعاً لمحاور الصراع الناظمة لها.

صحيح أيضاً أن القمة تنعقد بنصاب عربي كامل من حيث الشكل. لأن وفوداً تمثل الانظمة الحاكمة التي تشكل أطرافاً في أزمات بلدانها القائمة، إلى جانب الانظمة التي نجحت في تجاوز مشكلاتها وأزماتها وإدارة شؤون بلدانها بأقل قدر من الخسائر، على نحو يضمن لها الحد اللازم من الاستقرار. سواء منها التي أخذت موقف الحياد النسبي، أو التي تدخلت في تلك الازمات واصبحت اطرافاً مشاركة فيها، مما كان له انعكاسات سلبية على أوضاعها السياسية والاقتصادية والامنية. وهي التي ترى راهناً وفي ضوء النتائج، أن مصلحتها  تستدعي المساهمة في معالجة أزماتها، والحد من مضاعفاتها التدميرية ومنع تمددها على الأقل.

يعني ذلك أن القمة تنعقد والأزمات والحروب المدمرة مستمرة. دون أن يكون أي منها، والتي لا يبدو أنها مرشحة كي تجد طريقها للحل، أو المعالجة في المدى المنظور. يستوي في ذلك أزمات اليمن وسوريا وليبيا والعراق وتونس والصومال ولبنان… وقد اضيف لها قبل أيام  قليلة، انفجار الحرب في السودان بين جيشي النظام السابق، بسبب الصراع على السلطة، والانقلاب على الانتفاضة التي اطاحت بحكم البشير. وهما الجيشان اللذان يحظيان باعتراف عربي ودولي، ما يطرح السؤال حول من سيمثل السودان في القمة العربية، فيما هو مدفوع بقوة احتراب جيشيه نحو التفكك والدمار، الذي يمكن أن تصل شظاياه إلى دول الجوار.

وإذا نحينا جانباً مسالة الديمقراطية المفقودة لدى المجتمعات العربية وأنظمتها الحاكمة دون استثناء، إلا أنه  ليس بالامكان تجاهل طبيعة الوفود المطعون بشرعيتها الوطنية والسياسية والدستورية، التي تمثل بلداناً  تعاني أزمات مستدامة وحروباً مفتوحة. يستوي في ذلك وفد النظام اليمني الموجود المقيم بقوة الدعم  الاماراتي والسعودي، والذي يشكل طرفاً في المواجهة مع الميليشيات الحوثية التي تدين بالولاء للنظام الايراني. مع النظام السوري، المحاصر بالعقوبات الدولية، والعائد إلى الحضن العربي، مقيداً بشروط عربية وأممية تطالبه الالتزام بالحل السياسي للأزمة، وتأمين عودة النازحين، ووقف انتاج وتهريب المخدرات، إلى جانب الحفاظ على وحدة سوريا وسيادتها. وهي شروط لا يستطيع  الوفاء بموجباتها، باعتباره المسؤول الأول عن الأزمة، عدا أنه مرتهن ومكبل بالاتفاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية  التي وقعها مع روسيا وأيران، مقابل حمايته ومناطق نفوذه من قبل الجيش الروسي وميليشيات الحرس الثوري الايراني،  في مواجهة المناطق التي تديرها التنظيمات الاصولية برعاية الجيش التركي وإدارته، أو التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية الكردية بحماية القواعد الاميركية وقوات التحالف الدولي. هذا عدا الغارات المتواصلة التي ينفذها العدو الاسرائيلي ضد الميليشيات الايرانية في المناطق الخاضعه للنظام.

ولا يختلف عنهما الوفد العراقي الذي يتشكل من خليط  يشارك فيه ممثلون عن منطقة الحكم الذاتي الكردي المستباحة من الجيش التركي، ومن قادة الميليشيات الشيعية والسنية المتنازعة على السلطة في ظل الصراع المفتوح بين النفوذ الايراني والهيمنة الأميركية، وسط تعثر مشروع إعادة بناء مؤسسات الدولة على المستوى السياسي والاداري والأمني. أما ليبيا فليس باستطاعة الوفد المشارك أن يدعي تمثيلها، باعتبارها موزعة راهناً مناطق وجهويات قبلية وعشائرية، تتنازع السيطرة عليها حكومات ومجلس نيابي وجيوش وميليشيات متقاتلة ومتعددة الولاءات للخارج الاقليمي، من التركي والقطري، إلى المصري والجزائري، بالاضافة إلى التدخل الاوروبي والاميركي والروسي، الذي يحول دون اجراء انتخابات رئاسية ونيابية موعودة منذ انهيار النظام السابق، وتفكك مؤسسات الدولة قبل اثني عشر عاماً. في المقابل يحضر الرئيس التونسي، العائد بقوة الانقلاب الدستوري إلى النظام الرئاسي، والانفراد في الحكم وإدارة مؤسسات الدولة، وفق نظم وقوانين تمثل ارتداداً فاضحا عن الكثير من المكاسب المتحققة في ميدان حقوق الانسان والمرأة في تونس، بذريعة مواجهة الحركات الاصولية وتنظيم الأخوان المسلمين، وخوض معركة الدفاع عن النظام، وسط تجاهل تام لحركة وقوى المعارضة الديمقراطية التي يمثلها الاتحاد التونسي للشغل.

وبينما لا يزال الصومال مقيماً وسط صراعات لا نهاية لها على السلطة مع الحركات الاصولية المسلحة في ظل أزمة اقتصادية حادة، فإن الوفد اللبناني، برئاسة رئيس حكومة تصريف الاعمال يشكل دليلاً واضحاً  على خطورة الأزمة السياسية المزمنة في لبنان، المتمثلة بتعطيل الاستحقاقات الدستورية وإدامة الفراغ الرئاسي والحكومي، بينما احزاب الطوائف وتياراتها الطائفية المتصارعة على تقاسم مواقع السلطة،   والمسؤولة عن الانهيار الاقتصادي والمالي، وعن تحلل مؤسسات الدولة وأجهزتها وسيادة الفوضى الاهلية، تُصرّ على إبقاء البلد ساحة مرتهنة للنفوذ الايراني ومحور الممانعة، في مقابل رهان الآخرين على تدخل  الدول التي تدور في فلك السياسة الاميركية.

كثيرة هي القضايا والمشكلات والأزمات التي تلقي بثقلها على جدول أعمال القمة العربية. وهي المرشحة  لأن تزداد تعقيداً وصعوبة، نظراً لتشابك عناصرها الداخلية، وترابطها مع العوامل الخارجية المتدخلة فيها.  ما يعني أن الآمال المعقودة على القمة لن تتعدى إشاعة المناخات الايجابية التي يعبر عنها بالمواقف والبيانات المتبادلة، وتكرار مقررات القمم السابقة التي تؤكد حسن النوايا والتزام المبادىء العامة الناظمة نظرياً للعلاقات بين الدول العربية. ما يشكل تغطية للتطبيع مع الأزمات القائمة وبين الأنظمة الحاكمة  ومصالحها، التي تغيب عنها أولويات مجتمعاتها وشعوب بلدانها، وهو ما يشكل رافعة للتدخلات الخارجية والامعان في استباحة سيادتها وتفكيكها والتلاعب بمصيرها وفي نهب مواردها وثرواتها الطبيعية.

Leave a Comment