اقتصاد

قضية دعم المحروقات تحرق ما تبقّى من أخضر ويابس

كتب المحرر الاقتصادي

المستشفيات، الأنترنت، المطاحن، الأفران، المولدات، الفنادق، المطاعم والملاهي والمقاهي، النقل، قطاعات الزراعة، وما تبقى من مصانع ومؤسسات ومرافق تعليمية وغيرها.. كل هذا، ناهيك بالمواطنين الذين يفتقدون الطاقة الكهربائية في بيوتهم، ويضطر بعضهم للقيام برحلات يومية من الطوابق العليا التي يقيمون فيها إلى مراكز عملهم مشياً على الأقدام أو دفع 30 ألف ليرة أجرة السرفيس، ثم يعود إلى بيته ليصعد سلم المعاناة .. تتويجاً بمحرقة قرية التليل في عكار، هذه بعض نتائج الفوضى الضاربة في البلد وقطاع المحروقات خصوصاً.

والمشكلات ليست وليدة الارتباك الذي طغى على أيام آخر الاسبوع الماضي بعد الاجتماعات المكثفة التي شهدها القصر الجمهوري لمجلس الدفاع الأعلى، وما تبعها من اجتماع طارئ لحكومة تصريف الأعمال التي استفاقت من “الكوما” وعقدت اجتماعاً “أون لاين”، وما انتهت إليه من مناوشات بين حاكم المصرف المركزي رياض سلامة وجبران باسيل حاكم لبنان كما وصفه الأول، تتويجاً بالرسالة التي وجهها رئيس الجمهورية إلى رئيس مجلس النواب طالباً منه مناقشة الأوضاع الاقتصادية  والمعيشية “التي استجدت بعد قرار حاكم مصرف لبنان وقف الدعم على مواد وسلع حياتية وحيوية، وما نتج عنها من مضاعفات. وذلك لإتخاذ الإجراء المناسب في شأنها”. والإجراء المناسب كما هو معروف هو الصرف من أموال الاحتياط الإلزامي. كل هذا لم يكن طارئاً، فالقصة قديمة وتعوَّدها المواطنون بحسب استهلاكهم وحاجتهم لهذه المادة أو المواد الحيوية في حياتهم اليومية. وما الضحايا الذين سقطوا منتظرين قرب المحطات بنيران “صديقة” سوى من مستلزمات المشهد المأساوي اليومي. مثله مثل النوم قرب المحطات للحصول على كمية من البنزين أو المازوت بعد فقدان هذه المواد من الأسواق. بينما “خطوط النقل والجر” نحو سوريا لا تنقطع عليها قوافل الصهاريج التي تسير برعاية الله وحزبه والنافذين في العهد وشبكات المهربين. إضافة إلى إخفائها من الأسواق في مستودعات مخفية تحت الأرض أو في البييوت حتى، استعداداً ليوم”القطاف” وارتفاع الأسعار. ويتفرع عن مثل هذا الوضع سماسرة صغار يعمدون إلى تعبئة صفائح وغالونات وبيعها بأسعار خيالية في السوق السوداء، بعد أن يحصل صاحب المحطة على “جعالته” مما يتجاوز السعر الرسمي المحدد من قبل الدولة.  وفي ظل الحاجة الملحة للمادة سواء أكانت المازوت أو البنزين وصل سعر الصفيحة الواحدة إلى حوالي المليون ليرة، دفعها المحتاجون المضطرون وهم صاغرين.

في أفضل الأحوال ما يتوافر في المستشفيات يكفي مع التقنين لأيام قليلة. بعضها أعلن أنه سيقفل أبوابه ويصرف أطباءه وموظفيه ويرسل مرضاه إلى البيوت، كونه لم يعد قادراً على تشغيل المولدات لتأمين غرف العمليات وأقسام الإنعاش وغسيل الكلى والأجهزة الحيوية و… ومن مِن المستشفيات “لم يمت ” بفقدان الوقود، يعاني أصلاً من فقدان الأدوية والمستلزمات. وكل النداءات التي تطلق يومياً، لا تسمن أو تغني من جوع . وتوفر المادة إن حصل لا يزيد عن أيام قليلة يعود بعدها إلى الصراخ وطلب النجدة والاستغاثة من مسؤولين لا يسمعون. واذا سمعوا لا يبادرون، باعتبار أن لاحول لهم ولا طول. والقطاع برمته أصبح يدار خارج أطار ما كان متعارف عليه من مستوردين وشركات وتوزيع ومحطات. فقد دخل آخرون استعملوا رصيدهم السياسي والمسلح لفرض سطوتهم عليه من خلال أماكن التخزين في الزهراني والبداوي، وتوزيعه بالطريقة التي تدر عليهم أرباحاً مضاعفة.. وبين أموال الدعم من المصرف المركزي التي لم تعد متوافرة، وشبكات مصطادي الفرص تعلن معظم القطاعات أنها باتت عاجزة عن التحمل، وأنها ستضطر للتوقف عن العمل، وتسجيل مصيبة ركود وبطالة إضافية على مصائب متراكمة.

تفاصيل الفضيحة  

كل من المسؤولين يتصرفون كأبرياء من دماء يوسف. وعندما يستمع ويشاهد المواطنون هؤلاء على الشاشات ومن الإذاعات يتحدثون، يخال نفسه يستمع إلى “نعاج” بريئة من التهم المرفوعة ضدها. والأغرب أنهم يطالبون بتوفير المادة للمواطنين والمؤسسات المهددة بالإقفال. كأن قصة مجزرة المرفأ تتكرر ثانية وبالإخراج نفسه. المهم هنا لنرصد كيف تفجرت الفضيحة. السوق وقبل أن ينفجر الوضع كانت قد باتت محكومة لمنطق مافيا السوق السوداء أو السوق الموازية بالتعبيير الاقتصادي. ولأن هذه السوق لها آليات جهنمية، ولو أدت إلى خراب البلد وافلاسه وعجز المؤسسات عن توفير المادة ومواصلة التشغيل، فقد تصرف رئيس الجمهورية باعتباره الحاكم الوحيد وقام باستدعاء المجلس الدفاع الاعلى لدراسة الوضع. ولأن رئيس حكومة تصريف الأعمال كما ذكرت مصادره هو في الحجر بعد مخالطته مصاباً بالكورونا، فقد امتنع عن الحضور الذين كان ضمنهم حاكم المصرف المركزي الذي تمّ استدعاؤه للمشاركة. وهنا أبلغهم سلامة أنه لم يعد لديه الأموال لمواصلة دعم المحروقات على سعر 3900 ليرة للدولار الواحد، فقد وصلت الأمور إلى الخط الأحمر. طبعاً بيان مجلس الدفاع الأعلى لم يشر إلى الواقعة وأبقى مقرراته سرية. أما وزير الطاقة فقد أعلن أن سعر الدعم سيتم على سعر السوق السوداء للدولار الواحد. وقامت احدى شركات الدراسات بإعداد جدول بياني بأسعارها الجديدة. وتبين منها أن البنزين سيصل سعر الصفيحة الواحدة منه إلى 336 ألف ليرة والمازوت إلى أقل بقليل..وقس على ذلك ، ما يعني أن رواتب اللبنانيين بالمتوسط صارت كافية لشراء 4 أو 5 صفائح بنزين. لكن ما أن بدأت تظهر ردود الفعل في الشارع نتيجة الوضع، حتى حاول القصر الجمهوري التنصل من المسؤولية وإلقائها على عاتق حاكم المصرف المركزي الذي كان قد أصدر بياناً من عدة أسطر، يتضمن اعلان التوجه الذي لا يعني سوى أمر واحد هو رفع الدعم. ما أثار ثائرة عون وباسيل ومن يؤيدهم في استمرار الدعم لمواصلة جهوده “الجهادية” وغير الجهادية. في اليوم الثاني عقد باسيل مؤتمراً صحافياً حمّل فيه سلامة مسؤولية ما يجري، واعتبر أن الأموال المتبقية من الاحتياط الالزامي هي ” ثروة وطنية ” لا يجوز لسلامة وغيره حجبها عند حاجة اللبنانيين لها. وهنا “مربط الفرس” وبالطبع يأتي بعد مال الاحتياط موجودات الذهب ثم ممتلكات الدولة من عقارات وغيرها. وفي اليوم التالي كان سلامة يرد بأن القانون يمنعه هو والمجلس المركزي لمصرف لبنان من التصرف بأموال الاحتياط، باعتبارها ضمانة للمودعين من المصارف لدى مصرف لبنان. وبالجملة وصف باسيل بأنه يتصرف كحاكم لبنان، ويؤكد أن توجه المصرف أقره مجلسه المركزي بإجماع الأعضاء. كان عون يأمل أن تلوي المواجهة يد سلامة فيضطر مرغما على الإنفاق من أموال الاحتياط الإلزامي. وعندما وجد أن حائط الصد يتجاوز سلامة إلى المجلس المركزي برمته، حوّل سيره نحو مجلس النواب، طالباً تعديل القانون بما يسمح للمصرف المركزي باستعمال أموال الاحتياط المودعة لديه. وبين رفع الدعم واعلان عون وباسيل عن استمراره إلتهبت الأسواق. وما كان متوافراً من محروقات ذاب كحبة ملح في الماء، وتضخمت الطوابير وسقط المزيد من ضحايا البنزين، وارتفعت الأسعار في السوق السوداء إلى معدلات خيالية. واعلنت القطاعات بما فيها الأفران وسواها عن توقفها عن العمل لأن مخزون المازوت يكفي ليوم أو يومين أو ثلاثة في أحسن الأحوال.

الدعم والبطاقة التمويلية

حاول عون وباسيل أن يظهرا بمظهر المتفاجئ بخطوة المصرف المركزي، مع أن الموضوع قيد التداول منذ حوالي العام. وما “كذبة” البطاقة التمويلية سوى خطوة استباقية بعد أن جرى إقرارها. ويومها سافر رئيس الحكومة حسان دياب إلى قطر عسى أن يحصل من حاكم دولتها على “مكرمة” تؤمن تمويلها لمدة عام. وعندما فشلت المحاولة جرى التركيز على قرض صندوق النقد الدولي باعتبار أن ليس لدى الدولة اللبنانية أي مبالغ لتصرفها على هذه الغاية. وظهر من التصريحات أن صندوق النقد يرهن موافقته على تقديم المبلغ كحصة للبنان من تمويله بالاصلاحات، التي لم ينفذ منها خطوة واحدة. وهكذا كان يتم “علك” الأيام والأسابيع دون أي بارقة حل. لا على صعيد ضبط كميات التهريب أو تجارة السوق السوداء ولا على مستوى الاصلاحات المرفوضة من الطبقة السياسية. والأغرب أنه مثلاً ونقلاً عن سلامة وهو من العارفين بالطبع، أنه خلال شهر واحد وقَّع على صفقات بنزين ومازوت وفيول أويل بقيمة 830 مليون دولار للشركات. ولا يوجد في الأسواق أي من المواد الثلاثة.. بالطبع يريد عون وباسيل ومن وراءهما من مافيات استمرار تمويل الدعم كي تذهب في طرقاتها المعلومة والمجهولة. وما لم يسلك حدود لبنان الشرقية والشمالية المفتوحة أُخفي في الخزانات بانتظار تحرير الأسعار، فتكون الحصيلة مئات المليارات قد ذهبت إلى جيوب المنتفعين بالتجارتين الداخلية والخارجية على حد سواء. لذا لم يكن خارج المألوف أن ينفجر غضب الناس على هذه السلطة الظاهرة والخفية، وتتعطل كل مقومات الحياة تبعاً لتوقف المولدات عن العمل، وأن تلتهب الأسعار أكثر مما هي، وأن تخلو الطرقات من السيارات والمارة وكأنها تتعرض للحظة قصف في الحروب التي مرت …

تصلح هذه القصة لفيلم سينمائي يتحدث عن المافيا اللبنانية التي قادت الاقتصاد اللبناني إلى واحد من أكبر انهيارات الاقتصادات في العالم خلال القرن العشرين، مع أنه اقتصاد صغير وضعيف ومتهالك . لكن العبرة تبقى في مدى الاصرار على رفض أي اصلاح، مهما كان متواضعاً لإنقاذ ما تبقى من رمق في عروق البلاد …. 

Leave a Comment