ثقافة

قصة قصيرة… المحطة

عائدة أبو فراج

إلى أهالي المخطوفين والمفقودين كافة، الّذين ينتظرون على رصيف محطة الأمل…

رأيتها آتية من البعيد، تحمل عكّازاً بيد، ومظلة باليد الأخرى. حين تتعب الواحدة، تلقي بثقلها وثقل سنين العمر على الثانية. كانت الرابعة من بعد ظهر يوم كانوني عاصف يقصر فيه النهار، ويتمادى الليل، بل يتباهى بطوله، قبل حلول السنة الجديدة بأيّام. شاء فيه الله أن يذكر البشر أن الطريق إليه واحدة، وأن تشعبت المفارق. فتقاطع التقويم الهجري والتقويم الميلادي، وتشابكت الأعياد وتوحدت. إزدانت طرقات المدينة بأجمل الحلل، صليب يعانق هلالًا، وعجت الشوارع بالسابلة، رجالاً ونساءً وأطفالاً. لكن المرأة العجوز كانت تسير مترنحة، شاردة الذهن، كأنّها شبح آتٍ من زمن يغوّر في ماضٍ سحيق، أو طفل ضلَّ طريقه ووجهته، فتاه.

كنت أنظر من وراء زجاج كوخي الخشبي الصغير، القائم على مدخل إحدى المدارس. أبيع فيه ما خفّ ولذّ من السكاكر، والمكسرات، والمشروبات الغازيّة التي تستهوي مذاق الأطفال. كانت فترة عطلة الأعياد، فكان الشغل خفيفاً بسبب العطلة المدرسيّة. قررت أن أستفيد من تزاحم الأعياد، ومن حركة السوق، وأن أبقى مساءً في كوخي لعلني أسترزق.

بدأ الليل يرخي سدوله باكراً. لمعت أضواء السيارات التي استطعت من خلالها أن أرى رذاذ المطر الّذي بدأ يتساقط، متمهلًا ومتباطئاً في البدء، ليتحوّل في غضون دقائق إلى مطر مدرار يغمر الطرقات ويتسلق الأرصفة. سمعت أبواق السيارات تلعلع، والسيدة العجوز عالقة في الوسط. بدأت المياه تتدفق إلى داخل الكوخ، فانشغلت عنها بجرف الماء. وما أن فرغت من عملي حتى تذكرتها. خرجت اتفقدها مخافة أن يكون قد أصابها مكروه. رأيتها جالسة على مقعد خشبي أمام المدرسة، على مقربة من كوخي، تحتمي بمظلتها السوداء من المطر الّذي هدأ روعه، بعدما صبَّ غضبه فوق رأسها.

وما هي إلّا دقائق، حتى عاود المطر تساقطه بغزارة. أخذت العجوز تلّف جسدها بثوبها الطويل الّذي تحوّل إلى ما يشبه الخرقة المغمسة بالماء. وضعت العصا فوق المقعد الخشبي الّذي حوّله التلامذة إلى هيكل خشبي لكثرة ما يجلسون عليه ويقفزون فوقه. أما مظلتها فكانت ما تزال مرفوعة فوق رأسها، يتلاعب بها الريح، فتتراقص كأجنحة الطير.

بدأ البرق يلمع في السماء، وقصف الرعد يمعن في زرع الخوف في القلوب. أثارت العجوز شفقتي، لكنني تريثت قليلًا قبل أن أدنو من هذه السيدة الغامضة، والصامدة وسط طبيعة غاضبة. إقتربت منها بهدوء، ودعوتها لدخول الكوخ كي تحتمي من المطر حتى هدوء العاصفة. كرّرت طلبي مراراً، لكنها لم تجب ولم تستجب. اقتربت منها أكثر كي أحتمي بمظلتها من زخات المطر. جفلت ورفعت نظرها نحوي. إنعكس ضوء الشارع على وجهها، فبانت التجاعيد المحيطة بعينيها، التي تشي عن عمرها المديد. وقَفَتْ قليلاً، فلاصق ثوبها جسدها الّذي بدا أشبه ما يكون بغصن يابس يصلح فقط وقودًا للنار. ألححت عليها مجدداً كي تدخل الكوخ، لأن العاصفة تشتد، وقد تطول. أخذت تحك رأسها كأنّها تحاول أن توقظ ذاكرة أصابها الصدأ، ثمّ جلست على المقعد من جديد وقالت:

“ماذا لو جاء فؤاد ولم يجدني؟ لقد وعدته أن أنتظره على رصيف المحطة زمن الأعياد. أخاف إذا رافقتك إلى الكوخ، أن يغضب مني ويتابع الرحيل”.

أجبتها قائلًا والدهشة تغمر وجهي:

“لكن يا خالة، إنّك تنتظرين في المكان الخطأ. فلا قطار هنا ولا محطة”. أمعنْتُ النظر في وجهها، فوشى عن عمر تجاوز الثمانين، ثمّ سألتها:

“ومن يكون فؤاد، يا خالة؟”

أجابت والكلمات تكرج من فمها كزخات المطر الذي اخترق جسدها حتى العظام، ثمّ أخذت تحك رأسها من جديد، كأنّها تطرق باب الذاكرة، وقالت:

“فؤاد!! ألا تعرف فؤاد!؟ إنّه إبني، فؤاد”.

ثمّ أخذت تبطئ بالكلام، تلوك اسمه كي تتمتّع بسماعه، تمامًا كما المطر الّذي أخذ بدوره يبطئ، لينكفئ بعد لحظات.

جلسْت إلى جانبها على المقعد الخشبي، أصغي إليها كطفل شدّته حكاية شيِّقة ترويها له أمّه قبل نومه في المساء. وبعد هنيهة من الصمت، تابعت الكلام قائلة:

“لقد مرّت في حياتي عواصف هوجاء كثيرة. لكني لم أستسلم، لم أضعف أو أيأس. لقد روى فؤاد حياتي حبّاً وحناناً أورقا حلماً جميلاً عشت من أجله مدى الحياة. لكن الحلم قد تبخّر، بل إنكسر على أرصفة الإنتظار. لقد ذهب فؤاد إلى عمله في الشركة ولم يعد. قالوا لي أنّه هاجر هربًا من الحرب. لكنّي أكّدْت لهم أن فؤاداً لن يهاجر دون وداعي. فأنا أمّه، وليس لديه أمّ سواي”.

تنهدت أمّ فؤاد قليلًا، ثمّ تابعت الحديث:

“لقد صدقتهم في البداية لكن بعد إنقضاء السنين، أخذت أفقد الأمل. فهو لم يرسل لي رسالة واحدة منذ رحيله. ألححتُ بالسؤال عنه مراراً وتكراراً، إلى أن قال لي أحد المسؤولين ان فؤاد في عداد المفقودين. لقد خُطِفَ يوم السبت الأسود إبان الحرب الأهليّة، ومن يومها والأيّام السوداء تتوالى، والخطف والخطف المضاد لم ينتهِ فصولًا بسبب كلمة كتبت على الهُويّة، كلمة تشي بطائفة من يحملها. ومنذ ذلك اليوم، تحوّلت حياتي إلى محطة إنتظار. أنتظر على رصيفها قطاراً يعيده إليّ”.

صمتَتْ قليلًا، تنهدَتْ، ثمّ تابعَتْ قصّتها وقالت: “ثلاثون عامًا قد إنقضت وأنا على هذه الحال. أجيء إلى المحطة عشيّة عيد الميلاد، أنتظر هديّة من الرّب. أنتظر عودة فؤاد كي أكحل عينيّ برؤيته قبل الرحيل عن وجه هذه الدنيا القاسية الأليمة واللئيمة. أتراه قد نسيني ونسي تاريخ حلول عيد الميلاد؟”. ثمّ نظرت إلى البعيد بعينين شاردتين، بعدما حملها الشوق إليه.

حزِنْتُ لحالها وجلسْتُ إلى جانبها أصغي إلى نهاية قصّتها وأنتظر معها وصول قطار لن يأتِ أبداً، لأنّه محض خيال. نظرْتُ إلى ساعة يدي فإذا بها قد تجاوزت العاشرة ليلاً. لقد حان موعد إقفال الكوخ والعودة إلى زوجتي وأطفالي. وما أن نهضْتُ من مكاني لأودعها، حتى أمسكت بيدي وسألتني:

“ما اسمك يا بنَيْ؟”

“سامر”، أجبتها، وقلبي يتقطع حزنًا على حالها. ثمّ تساءلت قائلة:

“يا سامر، يا بني، هل سيتأخر القطار؟ لطالما تأخر من قبل”.

لم أدرِ بما أجيب وكيف أصوغ الكلمات، بأن المحطة هي من صنع الخيال، وبأن القطار قد ضلّ طريقه ولن يعود. ودّعْتُها ورثيْتُ لحالها، فهي في منزلة بين منزلتي الحلم واليقظة، تنتظر عودة ابنها الّذي تحوّل إلى إسم مدرج على لوائح المخطوفين المجهولي المصير، كانت قد اختطفتهم مجموعة من الناس الذين تفحمت قلوبهم من شدّة التعصّب والحقد، رافعين شعار “نحن أو لا أحد”.

وما أن خطوْتُ خطوتين، حتى نادتني باسمي وسألتني:

“كم الساعة؟”

“إنّها العاشرة ليلاً يا خالة”.

أخذت تتمتم وتقول لنفسها وليس لي هذه المرّة: “يبدو أنني قد فوَّتُ موعد قدوم القطار كما في كل مرّة”.

ثمّ قامت ومشت ببدن مثقل بالهموم، وروح كسرها طول الإنتظار. خفْتُ عليها من الضياع، فسألتها:

“هل أرافقك في طريق العودة إلى البيت، يا خالة؟”.

أجابت والحسرة تدمي قلبها:

“لا يا بني، يا سامر، إنني أعرف الطريق جيّداً. بيتي ليس بالبعيد، إنّه على مرمى حجر من المحطة. لا تقلق عليّ، فلن يخطفني أحد. ولكن هناك أمر واحد يقلقني. هل يا ترى سيتعرّف عليّ فؤاد حين يعود؟ لقد تقدّم بي العمر وتساقطت أوراقه الواحدة تلو الأخرى، لكني سأتمسك بما تبقى من روزنامة الحياة حتى عودته. أما أنا فسأتعرّف عليه على الفور، لأن قلب الأمّ دليلها، فهو لم يغب يوماً عن بالي، أرسم صورته بمداد القلب وألم الروح، وأصلّي من أجل عودته كل يوم. لكن يبدو أن الصلاة تسكن الوجع ولا تشفيه”.

وما أن ابتعدَتْ قليلًا حتى استدارَتْ نحوي وقالت:

“هناك شيئ آخر يقلقني. من سيأكل سبع حبّات البطاطا وأربع حبّات البصل التي شويتها في الموقد إذا لم يأتِ؟ ماذا سأفعل بالبطاطا والبصل والقمح الّذي سلقته إحتفالًا بقدومه؟”

تركتها تطرح الأسئلة وتوجهْتُ إلى الكوخ، أجرف الماء الراكد في داخله، وأرتب الأغراض على الرفوف. أفرغْتُ علبة الغلّة من محتواها. حسبْتُ المال، حشرْتَهُ في جيبي، ومشيْتُ متوجهًا نحو البيت.

نظرْتُ حولي، فلم أجد أمّ فؤاد. لقد غادرت بعدما غمر اليأس قلبها وملَّت الإنتظار. نظرْتُ إلى البعيد، وإلى الطريق الّذي جاءت منه، فرأيتها تترنّح في مشيتها. تقف قليلًا، ثمّ تتابع السير. عاود المطر تساقطه، فرأيتها ترفع العصا في الهواء لتحتمي من المطر، وتتعكز على مظلتها. إقترب منها شاب بمثل عمر فؤاد، فتح لها المظلّة، وناولها العصا لتتعكّز عليه إلى أن تسقط آخر أوراق العمر الّذي تمادى في قسوته وظلمه.

 

 

 

Leave a Comment