سياسة مجتمع

في ضرورة رسم دور جديد للدياسبورة اللبنانية

الدكتور بول طبر * 

ننطلق في هذا النص من فكرة أساسية مفادها: لقد حان الوقت للدياسبورة اللبنانية (أي للبنانيين المقيمين والعاملين في الخارج ولا يزال لديهم الإهتمام بالشأن العام في وطنهم الأم لبنان، وإن بدرجات متفاوتة وفق تفاوت الظروف وتقلباتها) أن ترسم لنفسها دوراً سياسياً واجتماعياً مستقلاً تجاه وطنها الأم لبنان، يستند إلى مفهومها الخاص لهذا الوطن ولنظامه السياسي والإجتماعي، بعيداً عن الدور الذي ارتضت به لغاية الآن والذي رسمته لها القوى السياسية التي تعاقبت على الحكم في لبنان منذ ولادته العام 1920.

وتستند هذه الدعوة ليس إلى مجرد رغبات ذاتية، وإنما إلى عدة عوامل موضوعية، منها يعود إلى الحالة التي توصل إليها لبنان في ظل النظام السياسي السائد والقوى السياسية المتحكمة بمفاصله، ومنها يعود إلى الظروف التي تواجه الدياسبورة اللبنانية في البلد الذي تقيم فيه، وإلى مصالحها واختبارها في بعض البلدان التي تقصدها لفوائد العيش، والعمل في ظل أنظمة أقل ما يقال عنها أنها تحترم الحد الأدنى لكرامة الإنسان والعيش الكريم.

“ثورة 17 تشرين” وضرورة القطع مع النظام السياسي (والإجتماعي-الإقتصادي) في لبنان والقوى السياسية المتحكمة فيه

أوصلت القوى الحاكمة، كل من موقعه، بلدنا الأم لبنان إلى مرحلة من الإنهيار الشامل لا مثيل له منذ قيام لبنان الكبير عام 1920. وكانت “ثورة 17 تشرين” بالمطالب التي رفعتها، والحشود التي شاركت فيها من مختلف المناطق والطوائف في لبنان ومن الدياسبورة اللبنانية في أماكن عدة من العالم، الحدث الأساس الذي أعلن وبصورة حاسمة نزع الثقة ليس فقط من القوى السياسية السائدة في البلد، وإنما أيضاً من النظام السياسي الذي تستند إليه لبناء وشرْعَنَة تسلطها على الشعب اللبناني.

إن الإقرار بهذا الحدث الكبير والعمل الدؤوب للبناء عليه، والعمل على تحقيق المطالب التي رفعها المشاركون فيه، والتي يمكن تلخيصها باستبدال القوى السياسية السائدة وتغيير النظام الطائفي الذي يعتاش على محاصصة الموارد العامة، والتربُّح والزبائنية والفساد وانتهاك كل ما يمت بصلة للأصول الديموقراطية، يشكِّل الخطوة الأولى في مسار بناء دور سياسي جديداً للدياسبورة اللبنانية في علاقتها مع الشأن العام في وطنها الأم لبنان.

الهجرة المستمرة من لبنان والثمن الباهظ الذي يدفعه لبنان وشعبه جرَّاء ذلك

ليست الهجرة الكثيفة ظاهرة جديدة في لبنان، بل أنها تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر. إلا أن الملفت والمستهجن بالنسبة إلى هذه الظاهرة هو تصوير النظام وأربابه في لبنان لهذه الظاهرة بأنها صحية وطبيعية وتعبر عن “طبيعة” مفترضة للشعب اللبناني، وهي أساساً “طبيعة” تعشق المغامرة والتجارة. والمسكوت عنه في هذا القول هو لماذا لا يستطيع اللبناني أن يحقق ذاته المولعة بـ”المغامرة والتجارة” داخل وطنه؟ وما هي الكلفة الباهظة التي يدفعها المهاجر عندما يغادر وطنه ويسعى إلى الاستقرار في البلد الذي يستقبله؟ وماذا عن الأهل والأصدقاء الذين ينفصل عنهم؟ وعلى المستوى العام، ما هي الكلفة الإقتصادية (والسياسية) التي يدفعها لبنان من جراء هذا النزيف الدائم لموارده البشرية؟ وماذا عن مضاعفات تحويلات الدياسبورة لجهة دعم القطاعات غير المنتجة في الإقتصاد اللبناني، وتعزيزها للإستهلاك وإعاقتها لتحفيز تنمية القطاعات المنتجة؟

ملازمة النزيف البشري المستدام من لبنان نحو الخارج للنظام اللبناني والقوى المتحكمة فيه، ومضاعفات هذا النزيف المفتوح على الأهل والمهاجرين وعلى الإقتصاد الوطني لجهة تكريس نموه المُعاق والمشوَّه، يشكل الدافع الثاني لضرورة رسم دور سياسي (واجتماعي-إقتصادي) للدياسبورة اللبنانية في تعاطيها مع وطنه الأم لبنان.

حقوق الدياسبورة المهدورة من قبل الدولة اللبنانية والقوى المتحكمة بمفاصلها 

أولاً، حرمت الدولة اللبنانية الدياسبورة اللبنانية من أن تشارك في الحياة السياسية في لبنان عن طريق عدم منحها الحق في التصويت من خارج لبنان. ولقد أقرّت بهذا الحق عام 2017 ، وخلال الانتخابات العامة التي جرت عام 2018، قامت الدياسبورة بممارسة هذا الحق لأول مرة في تاريخ الإنتخابات اللبنانية. ورغم الإقرار بهذا الحق والمشاركة المتصاعدة عددياً في إنتخابات 2018 و2022، لم تقم الدولة والقوى السياسية المتحكمة بها بواجباتها الكفيلة بتسهيل الإجراءات الإدارية المطلوبة والكفيلة بتسهيل الطريق لجميع الراغبين في المشاركة في التصويت عندما حلَّ موعد الإنتخابات المشار إليها.

عليه يكون مطلب تسهيل التسجيل للمشاركة في الانتخابات النيابية، وتوفير الشروط العملانية لتلك المشاركة عند حلول موعد الإنتخابات، من المطالب الأساسية المحددة للدور السياسي الجديد للدياسبورة اللبنانية.

إضافة، هناك مطالب سياسية أخرى تدخل في صلب رسم هذا الدور المنشود للدياسبورة: مطلب تسهيل إعطاء الجنسية اللبنانية لطالبيها والأهم من ذلك، مطلب إعطاء الدياسبورة حق التمثيل النيابي المستقل عن الدوائر الإنتخابية في لبنان، أي تخصيص عدد من المقاعد النيابية للبنانيين المنتشرين خارج حدود وطنهم، لبنان. يقودنا هذا المطلب الأخير إلى تسجيل السبب التالي الذي يدفع بنا إلى تبني دعوة رسم دور سياسي جديد للدياسورة اللبنانية.

مزيد من المطالب الخاصة بالدياسبورة اللبنانية

لدى اللبنانيين في الخارج مطالب خاصة ومتنوعة قد تتنوع مع تنوع البلدان التي يستقرون فيها. نورد من هذه المطالب ما يلي، دون أن يعني ذلك استنفاذ جميع المطالب الخاصة بالدياسبورة:  مطلب تسهيل وتسريع جميع الإجراءات الإدارية المتعلقة بنقل الملكية وتسجيل الزواج والطلاق والوفيات والتملك؛ دعوة الدولة اللبنانية للقيام بواجباتها لدفع الدولة المستقْبِلة للمهاجر اللبناني للإعتراف بالشهادات والكفاءات المهنية المحصَّلة في لبنان؛ مطالبة الدولة اللبنانية المساهمة في تسهيل تعليم اللغة العربية لأولاد المهاجرين اللبنانيين، وحثّ الدولة المستقْبِلة لتسيهل هذا الأمر، إذا لم تتوفر الفرصة للقيام بذلك؛ إيجاد هيئة رسمية لتمثيل المغترب اللبناني وخاصة الراغبين في الاستثمار في بلدهم لبنان، وتشجيع قيام علاقات تجارية واقتصادية وثقافية بين لبنان والبلد المستقبل للمهاجرين اللبنانيين؛ إلخ.

مشروعية المطالبة بالتمثيل النيابي المستقل للدياسبورة مستمدة من الظروف الخاصة التي يعيشون في وسطها والمطالب المتحدرة من هذه الظروف. ولا أحد سوى المغترب وممثِّله في البرلمان والحكومة اللبنانية يحسن التعبير عن هذه المطالب (وغيرها الكثير). من هنا تُشكِّل هذه الوقائع المزيد من الدوافع لرسم الدور السياسي المنشود للدياسبورة اللبنانية.

إختبار فوائد العيش في ظل أنظمة سياسية ديموقراطية، تفصل الدين عن الدولة و تؤمن الحد الأدنى للعيش الكريم لجميع المواطنين من دون أي تمييز.

رغم الصعوبات المتعلقة بعملية الإستقرار في بلد جديد، يكتشف المهاجر اللبناني مع مرور الوقت في العديد من الدول المستقبلة له، مثل أستراليا، فوائد العيش في ظل أنظمة غير طائفية، تؤمن العدالة الإجتماعية عبر خدمات الرعاية الإجتماعية التي توفرها لجميع مواطنيها، إضافة إلى عنايتها بالتنمية الإقتصادية، وتوفير فرص العمل وتأمين الحد الأدنى من الرفاهية للمواطنين، واعتمادها الضريبة التصاعدية لتمويل الخدمات العامة. إن اختبار العيش في ظل هكذا أنظمة تخضع سياسيها للمراقبة والمحاسبة الدورية، قد أكسب المهاجر اللبناني الوعي الحاسم بأفضلية هكذا أنظمة على النظام اللبناني الفاسد، الأمر الذي يضيف من قناعة الدياسبورة اللبنانية بضرورة القيام بدور سياسي (واجتماعي-إقتصادي) تغييري تجاه لبنان لجعله يشبه النظام السياسي-الإقتصادي الذي اختبروه في المهجر. ولا داعي للتذكير أن هكذا نظام كان ولا يزال من صلب المطالب التي رفعتها “ثورة 17 تشرين” في بلدنا الأم لبنان.

*الدكتور بول طبر.. استاذ متقاعد في علم الاجتماع والانثروبولوجيا. عمل في الجامعة الامريكية اللبنانية في لبنان، وكان مديراً لمعهد دراسات الهجرة فيها. حالياً باحث ملحق في جامعة غرب سيدني.

Leave a Comment