ثقافة

في الذكرى السابعة عشر لرحيله عفيف فراج: فارس لا يترجل (1942-2004)

عائدة خداج أبي فراج  

سبعة عشر عاماً انطوت على رحيل المفكر، والكاتب، والباحث، والناقد، والأستاذ الأكاديمي عفيف فراج، وما زال مكنون فكره يتجدد كتاباً تلو آخر، كأن الزمن لم يمر على عطائه الفكري . وكأن الفارس لا يترجل أو يبرح المكان أو يغادر خشبة المسرح. وفي هذه الذكرى الأليمة يبصر آخر كتبه النور، تحت عنوان “الموروث الشرقي للثقافة العبرية”، الذي يتناول فيه مكونات الشخصية والثقافة العبرية المستبعَدة ( بالفتح) في الغرب، والمستبعِدة ( بالكسر) للفلسطيني، صاحب الأرض، من الجغرافبا والتاريخ، في الشرق.

كان عفيف يردد دائما “إن الحياة بعمقها، وليس بطولها”، و “أن الأفعال العظيمة هي التي تكتب صاحبها في الأدب، وترسخه في الذاكرة والوجدان”، كأنه كان يعلم ان قلمه سيستريح قسراً، وأنه سيرحل قبل أن ينهي الكلام. كان يقرأ بشغف، كأن متع الدنيا كلها قد انحسرت في كتاب. وكان همه الوحيد ان يسعى إلى الكتاب وأن يسعى الكتاب إليه. وأن يبحث عن فكرة جديدة في ثنايا المعرفة يُغني بها الثقافة. يكتب بأناة وكأنه يحفر في الصخر. كان مثقفاً موسوعياً متعدد الأبعاد ومتنوع الميادين. كتب في الأدب، والتاريخ، والفكر، والثقافة، والحضارة، والفلسفة، والدين، وعلم النفس، والتربية، والنقد الأدبي، والقضايا السياسية الوطنية والقومية والأممية الكبرى. وكانت ثقافته الواسعة بمثابة مكتبة وطنية تقدمية تنطوى على مصادر أفكار بكر هي ثمرة اختمار طويل من القراءة، والتأمل، والمعاناة، والإستشراف.

لم يطلب يوماً منصباً او مكسباً، كان جزءاً فاعلاً من جيش التمرد الكبير… شكلت الكتابة بالنسبة إليه فعل التزام…ظل أميناً لدوره… لم يمارس سلطة ولم يقف على أعتاب. كان عاشقاً للحرية، طليق الجناحين، واذا ما تعارضت حريته مع ايديولوجيات الأحزاب، ومجالس القبائل، كان يدير الظهر لها، ويخرج من شرنقتها الى الأفق الوسيع، مردداً قولاً في ملحمة جلجامش “دع عيني تصافحان الشمس، أشبع من نورها”. كانت روحه مسافرة نحو الشمس، منبع الحرية، تتابع بحثها عن النور- الحقيقة، وعن سر الوجود. ومن يسعى إلى الحقيقة يترفع عن المادية، والشيئية، والفردانية، وكل انواع التعصب. لذلك فتح عفيف نوافذ العقل على كل المذاهب الفكرية والعقائدية، فكان محاوراً منفتحاً، يتمتع بحس نقدي موضوعي، وهو الماركسي النهج والتفكير. وقد عبَّر عفيف عن معاناة المثقف النخبوي الملتزم وغربته في بحث تحت عنوان ” العلاقة الجدلية بين السياسة والثقافة”، تضمنه كتابه “دراسات في الفلسفة، الفكر، الدين، السياسة، الثقافة والأدب” (دار الفارابي، 2014)، فكتب بمرارة الرسول الذي لا يجد له مكاناً بين قومه، قائلاً: “يجلس المثقف النخبوي في مجلس القبيلة، يداعب وهم الإنتماء الى القوم… من اجل تحريك الصخر القبلي الذي “حطه السيل من علِ”… يعاود المثقف النظر في وجوه أعضاء المجلس القبلي، فلا يرى وجهه بين الوجوه، ولا يقرأ إسمه بين الأسماء، يشتم رائحة القتامة الدهرية، وتتكشف أبخرة الكلام لتجدل حبلاً يلتف حول عنقه ويعقل عقله.

يخرج المثقف من مجلس القبيلة ويذهب الى غربته … عاجزاً عن الحلول مكان همزة القطع التقليدية… يغسل المثقف يديه من الحرب… يقدم استقالته لقادتها… يحمل قلمه وأوراقه الى أبعد من مرمى أسلحتهم كافة….

كان عفيف التلميذ والأستاذ والكاتب ينتمي إلى الوطن بكل أطيافه وطوائفه ومناطقه، فلم تحده الجغرافيا ولم تكبله الطائفية، فحافظ على موضوعيته ونزاهته الفكرية حتى إبان الحرب الأهلية العبثية التي مزقت نسيج الوطن، فآثر الصمت فترة الاقتتال الطائفي والشرذمة ومحاولة التقسيم. وكان يردد على مسمعي : “لن أكتب لنصف الوطن، لن أكتب لنصف بيروت، لشرقها أو غربها، بل سأنتظر وأكتب لكل الوطن”.

هذا الإنتماء للوطن الأم، رافق عفيف منذ مراحل دراسته الأولى، فتجاوز خطوط الطائفية الحمر، منتقلاً بين عاليه وجامعتها الوطنية، و “معهد فيكتوريا” في بعبدا، و “المعهد العربي” في بحمدون لصاحبه خليل خيرالله الذي شكل قبلة العروبيين والناصريين و حَمَلة هم فلسطين، حيث اختمر واكتنز فكره الوطني والعروبي. ثم حملته أجنحة العروبة إلى القاهرة و جامعتها، قاهرة عبد الناصر، ليصغي إلى صوته الهادر في الساحات، منادياً بالوحدة العربية من المحيط الى الخليج، مندداً بالإستعمار، ومدافعاً عن القضية الفلسطينية.

وبقيت حياة عفيف حافلة بالتنوع والإنفتاح، فتنقل كأستاذ في التعليم الثانوي للغة الإنكليزية وآدابها بين ثانويات بعقلين والأشرفية وعمر فروخ، يغرس عقول تلاميذه ببذار المعرفة وحب الحرية والديمقراطية والمساواة.

وعفيف الأستاذ الجامعي الحائز على دكتوراه دولة في الأدب المقارن وعلم الثقافات من ألمانيا، تابع مسيرته ورسالته التربوية يعلم مادة دراسات حضارية، ومجتمع وفكر، والأدب العالمي، والعلوم الإنسانية، والحضارة العربية الإسلامية، والترجمة، متنقلاً بين الجامعة اللبنانية – الفرع الأول، جامعة الوطن، منذ العام 1985، وجامعة البلمند شمالاً، والجامعة اللبنانية الأميركية – فرع صيدا جنوباً، وجامعة الحريري الكندية شوفاً، والجامعة الإسلامية ساحلاً. وعين رئيساً للجنة التنسيق بين الجامعة اللبنانية والجامعات الخاصة في لبنان ومع جامعات الخارج، ورحل خاتماً مسيرته التربوية مديراً لكلية التربية – الفرغ الأول.

هذا التنوع وهذا الإنفتاح في مسيرته التربوية، تماشى و تنوع حقوله المعرفية الزاخرة بالفكر النهضوي، التنويري، واليساري التقدمي. فاعتلى مختلف المنابر الثقافية محاضراً، وتصدرت مقالاته وأبحاثه الصحف والمجلات كاتباً. بدأ كتاباته الأولى في “مجلة الطريق”، ثم إنتقل الى اليسار الجديد ليكتب في “مجلة الحرية” إبّان تحول حركة القوميين العرب إلى اليسار والفكر الماركسي. ولم يخلُ عدد منها من مساهمة له أو مقالة أو بحث له حول الثورة الفلسطينية، وحركات التحرر العالمية، والحركات الطلابية والنسوية. وتكرس إسمه في هذه المرحلة في مجال النقد الأدبي. ثم تابع كتابة أبحاثه المطولة في مجلة “دراسات عربية”، ومجلة “البلاغ”، ومجلة الفكر التقدمي، وتوجها بكتابات  ونصوص أدبية في مجلة “الآداب”. وتصدرت أبحاثه غلاف “ملحق النهار العربي والدولي”، وواكب جريدة “السفير” منذ نشأتها وهو الصديق المقرب لصاحبها طلال سلمان منذ مرحلة الدراسة في جامعة القاهرة. وكذلك كتب الكثير في جريدة “الأنباء” و جريدة “الحياة”.

ليس من السهل الإحاطة بسيرة عفيف الفكرية في مساحة ضيقة لا تتسع سوى للنزر اليسير من أفكاره. لقد شكلت كتبه الأربعة عشر محطات فكرية وازنة في الثقافة العربية. صدر له ستة منها قبل رحيله، وثمانية بعد غيابه. شكل كتاب “دراسات يسارية في الفكر اليميني” (دار الطليعة 1970) باكورة كتبه التي موضعت عفيف كواحد من كتاب جيل الانتليجنسيا اليسارية العربية في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات بكل تمردها ونقمتها وطموحاتها. عبر الكاتب عن ذلك التمرد وتلك النقمة على الراكد من الأفكار والممارسات، وركز على الحركات الطلابية الطامحة للتغيير، وعلى تداعيات هزيمة الخامس من حزيران، وعلى التشوه البيروقراطي والاقتصادي للاشتراكية السوفياتية متنبئاً بانهيارها. وقد كتب أحدهم قائلاً : “كان كتاب عفيف بالنسبة لجيلنا من الطلاب بمثابة البيان الشيوعي بالنسبة للشيوعيين”.

وبقي هاجس الحرية يطارد عفيف، فجاء كتابه الثاني “الحرية في أدب المرأة” (مؤسسة الأبحاث العربية -1975) ظاهرة ثقافية على مستوى العالم العربي، وعملاً رائداً في بابه. تناول فيه الإنتاج الأدبي النسوي ومفهوم المرأة لحريتها، كجزء من اهتمامه بالإنسان المستلب الإرادة والحقوق، متصدياً للمفكرين الذين وصفهم بالجلادين الذين حكموا على المرأة بالقصور العقلي الذي يستوجب وصاية ذكرية راشدة.

شكل اغتيال المعلم كمال جنبلاط، الى حد ما، تحولاً في فكر عفيف باتجاه اشتراكية أكثر إنسانية، بعد قراءته لفكر المعلم الشهيد. فجاء كتابه “كمال جنبلاط : المثالي الواقعي” (دار إبن خلدون-1977، ثم الدار التقدمية) من أفضل ما كتب عن الراحل، تناول فيه فكر جنبلاط المتمفصل على المعرفي و العرفاني، مركزاً على الحاجة إلى ” إنسانه الإشتراكي القانع مادياً حتى التقشف، والمتطلب روحياً، علمياً، و معرفياً حتى الجشع”، و ” الساعي إلى الجمعنة في الكوكبة “. وهذا التوجه الى الإشتراكية الأكثر إنسانية حدا به الى ترجمة كتاب جنبلاط “ثورة في عالم الإنسان” إلى الإنكليزية (الدار التقدمية-1990). وبعد رحيل عفيف، أصدرنا له كتاب “في السياسة والأدب السياسي” (دار الآداب-2008)، تناول فيه علاقة الزعيمين العربيين جمال عبد الناصر وكمال جنبلاط اللذين لمعا كشهابيْن في تاريخ الأمة العربية، في زمن نحن فيه بحاجة ماسة إلى سماع صوت عبد الناصر يدوي قائلا”: “إرفع رأسك يا أخي فقد ولّى عصر الاستعمار”، ليُسمع في أقاصي القارتين وفي ما يتعداهما الى كل “المطأطئين رؤوسهم في الأرض لنير السيد الغربي”، وإلى بعث فكر كمال جنبلاط الداعي الى ألوهية الإنسان، وإلى العلمانية التي ترتكز على “القيم الجوهرية الروحية والخلقية العامة المشتركة لجميع العقائد والمذاهب والأديان”.

أما الكتاب الذي فتح الباب على مصراعيه لولوج عفيف إلى العالم العربي وقرائه،والذي إحتل مرتبة أفضل كتاب للعام 2003، والأكثر قراءة فكان “اليهودية بين حضانة الشرق الثقافية وحضانة الغرب السياسية” (دار الآداب-2002)، عرض فيه عفيف مكونات الشخصية اليهودية التي تخضع المبادىء والقيم للمصلحة المادية الشخصية، وتجعل المال لا سلعة السلع وحسب، وإنما قيمة مطلقة ومعياراً شمولياً تقاس به الأشياء والبشر المشيؤون. ويبحث الكتاب في أسباب بقاء اليهودي شرقياً مستبعداً ( بالفتح) في الغرب، ليتحول إلى غربي كولونيالي مستبعداً ( بالكسر) الفلسطيني في الشرق. ويقول عفيف “إن الغرب الأوروبي ساق اليهود إلى فلسطين، وحوَّلها إلى وطن بديل عن أوطانهم الأوروبية الأصلية…، ما جعل الصهيوني الهارب من ثقافة الغرب – الغيتوي، ينتحل على أرض الشرق هوية الغرب الثقافية، ويتنكر لأصوله الشرقية، ويتحالف مع الغرب الطارد له، ويستعدي الشرق العربي والإسلامي الذي إحتضن الطريد اليهودي، منقلباً على ألف سنة من التاريخ”. وهذا الموقف من الغرب لم يتبدل في مواقف عفيف السياسية. فقد وصف الغزوة الأميركية للعراق بأنها “الرحلة الدموية لقطار العولمة”، وهذا ما أثبتته أحداث المنطقة لاحقاً.

وقد تابع عفيف كتاباته عن اليهودية، فأصدر كتاب “رؤية آينشتين لليهودية ودولة اليهود” (دار الآداب-2003). وها نحن اليوم، نعمل على اكتمال الدائرة بإصدار كتابه الأخير قريباً حول “الموروث الشرقي للثقافة العبرية”.

وهجس عفيف بالنهضة العربية، فصدر له كتاب “إشكالية النهضة العربية بين الليبرالية الإغترابية والإسلامية الإجتهادية” (دار الآداب-2006)، أي بعد رحيله بعامين. وقد حدد الكاتب إشكالية النهضة بالقول : ” إن أهم إشكاليات الحقبة الليبرالية التي وُصفت بالنهضة، هي في تنافي التيارين الإسلامي-الإصلاحي من جهة، والراديكالي-الليبرالي من جهة أخرى. فكانت النهضة ضحية هذا التنافي. والمطلوب كان تجاوز هذا التنافي الى قيام فلسفة نهضوية تعين القيم العربية الإسلامية المميزة لشخصيتنا الحضارية، وتستكمل بنسيج ثقافي عالمي يحاك حول نواتها الصلبة”.

لم يغترب عفيف فراج يوماً عن ذاته وأصوله المتجذرة في عمق أرض الوطن، على الرغم من تحليقه في فضاءات كل الفلسفات الغربية. فقد حاول أن يغرس الفكر الغربي التنويري في تربة شرقية، وأن يعيد الحضارة الإنسانية إلى حاضنتها الشرقية. كان هواه الثقافي والفكري يهب من الشرق، موطن الشمس، فحاول أن يثبت، واستناداً الى واقع تاريخ مسار الحضارات، أن الشرق هو مصدر الحضارات، وأن يموضع بدايات الحضارة في بلاد ما بين النهرين، خلافاً لما هو شائع على أن الجد الحضاري للغرب هو أثينا-اليونان، وهوميروس. وقد تجلى هذا التجذير الحضاري في الشرق في أربعة من كتبه التي أصدرناها بعد رحيله وهي : “الجذور الشرقية للثقافة اليونانية” (دار الآداب-2007)، و “ثنائية شرق-غرب” (دار الآداب-2008)، و “القمع السياسي وتجلياته في نماذج الرواية العربية الحديثة”، ترجمة عائدة أبي فراج، وطارق أبي فراج عن الإنكليزية (دار الآداب-2013)، وكتابه الأخير “الموروث الشرقي للثقافة العبرية” (قيد الطبع). يحاول عفيف في مؤلفاته هذه أن يرد التهمة التي وُسم بها الفكر الغربي الشرق بأنه موطن الإستبداد، والقمع، والتخلف، ليقول إن الإستكبار، والإستبعاد، والإستعلاء، والقمع، والتسلط هي من صفات الغرب الإستعمارية عبر التاريخ.

هذا هو غيض من فيض أوجزناه عن شخص عفيف وفكره. لقد نال الموت من عفيف الشخص، لكن عفيف الثقافة والفكر، والقيم، والإلتزام، والنضال، والإنفتاح على حضارات العالم، والباحث عن الحرية والحقيقة، والمناهض للإستبداد، والقهر، والقمع، والجهل، والظلم ، أقوى من الموت، لأنه باق في ذاكرة الناس، بعدما حفر عميقاً في الوجدان، وأحيا الكلمة كي يحيا فيها بعد الغياب.

 

 

 

 

 

 

Leave a Comment