مجتمع

“فلسفة” النظام للإغتراب اللبناني ولحظة 17 تشرين الثورية

كتب الدكتور بول طبر

الإنهيار الحاصل في لبنان، وعجز المنظومة الحاكمة عن إيقافه أو تقديم الحلول الناجعة له، يطرح على المغتربين اللبنانيين سؤالاً أساسياً عن موقفهم من النظام اللبناني، والزعماء الذين يجسدون هذا النظام ويدافعون عنه. وهل يجوز للمغتربين وأبنائهم أن يستمروا في التمسك بالأفكار السياسية نفسها التي تضفي الشرعية على هذا النظام وأركانه، أم أنه حان الوقت لإعادة النظر بتلك الأفكار والممارسات السياسية والإجتماعية الداعمة لها والتي تفضي إلى بقاء النظام وأركانه؟

الهجرة من منظور النظام: تعميم نظرة شارل مالك للإغتراب اللبناني

منذ استقلال لبنان عام 1943، سعى أركان النظام عبر “مثقفيه” من مؤرخين وكتاب وصحافيين، وعبر الفنانين (مغنين وملحنين وشعراء) والمؤسسات التربوية والإعلامية، إلى تصوير هجرة اللبنانيين إلى مختلف بلدان العالم بصفتها واقعة تعبر عن خاصية ثابتة لشخصية اللبناني (بالمناسبة، جميع خصائص الفرد اللبناني هي جوهرية وأبدية وسرمدية من منظور أرباب النظام اللبناني). أنها شخصية اللبناني المغامر منذ زمن الفينيقيين الساعية باطراد عبر الزمن للبحث عما هو جديد وأفضل خارج حدود الوطن. ووفق هذا الإعتقاد وتعميمه على اللبنانيين يتم إسقاط وتغييب الأسباب الفعلية التي تكمن وراء الكم الهائل للمهاجرين اللبنانيين، وملازمة هذا النزيف البشري للمجتمع اللبناني منذ نشوء لبنان الكبير عام 1920، لا بل منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

سردية النظام والأقلام التابعة له لا تقف عند هذا الحد في وصف شخصية اللبناني المغامرة. فهي تتعدى ذلك لتضيف خصائص ثابتة أخرى إذ تصرح أيضاً أن اللبناني المهاجر لا ينسى “أهله” و”وطنه” مهما طال مكوثه في بلاد المهجر. ومع هذا التصريح المعمَّم، يتوجه النظام إلى اللبناني المهاجر ليدعوه للعودة إلى وطنه بعد تحقيق أحلامه في تحسين أحواله المادية، وبالتالي نقل أمواله إلى لبنان (بالعملة الصعبة بطبيعة الحال). وإذا تعثرت العودة النهائية إلى الوطن، يقوم النظام بتشجيع المهاجر على إرسال الدعم المادي لأهله وأقاربه والقيام بزيارة لبنان بالحد الأدنى. ألأمر الذي ينطبق في الأساس على غالبية المهاجرين اللبنانيين. كذلك يندرج تحت العنوان نفسه حث اللبنانيين الذين جنوا أموالاً طائلة في بلاد الإغتراب على الإستثمار في لبنان، وإنما دائماً بشروط تعود بالفائدة على أركان النظام، كفرض أنفسهم شركاءً في المشاريع الإستثمارية الوافدة (وغالبيتها غير انتاجية)، واستملاك الحق في توظيف العمال والمستخدمين كآلية إقتصادية في توسيع دائرة المستزلمين للزعيم المعني.

إذن اللبناني يحب المغامرة بطبعه ولذلك يختار أن يهاجر، ولكن دون أن ينسى أهله وبلده الأم لبنان. ويتم وفق هذا التوصيف الثابت لشخصية اللبناني ليس فقط تغييب وعدم الإعتراف بالأسباب الإجتماعية والإقتصادية والسياسية التي تدفع المواطن إلى الهجرة في الأساس، وإنما أيضاً خلق الشروط الإيديولوجية لسعي النظام وأركانه للإستفادة قدر الإمكان من جنى المهاجرين وأموال المستثمرين منهم بصورة خاصة. وبالتالي تثبيت السيطرة السياسية والإجتماعية والإقتصادية التي يتمتعون بها وإعادة إنتاجها بشروط أفضل بالنسبة لمصالحهم (لاحظ مثلاً الفصل الأخير من هذه العلاقة والتي قامت على تشجيع المهاجرين لوضع أموالهم في البنوك اللبنانية وشراء سندات البنك المركزي مقابل فوائد عالية نسبياً، ونهب هذه الأموال من القطاع المصرفي وأركان النظام خلال الأزمة المالية والإقتصادية التي دخل فيها لبنان منذ الربع الأخير من عام 2019).

في عام 1973، نشرت جامعة الروح القدس كتاباً بعنوان “الهجرة: مسألة لبنانية؟”. وتضمن الكتاب محاضرة لشارل مالك بعنوان: “لبنان، كياناً ومصيراً” تناول فيها “الأعمدة العشرة التي ينهض عليها ويتألف منها الكيان اللبناني” (ص.33). وجاءت الهجرة اللبنانية في المرتبة الخامسة في سياق تعداد تلك الأعمدة. ويشير شارل مالك المعروف بمكانته الثقافية والسياسية بالنسبة إلى لبنان ونظامه، أن “ظاهرة الإغتراب فخر وعيب ومأساة في آن واحد”. ويضيف قائلاً:”فخر لما حققه مغتربونا في بلدانهم الثانية، بعصاميتهم ورائديتهم، من شأن وانجازات، عيب لأن لبنان الأم لا يوفر لهم أسباب العيش فيضطرون إلى النزوح، مأساة، ليس فقط للآلام المبرحة التي تنزل بنفس المغترب اللبناني والتي لا يعرف أبعادها غير الله…” (ص.17).

وبعد الإشارة إلى أن عدد المغتربين يفوق عدد المقيمين، يعرِّج على انجازات المغتربين في الخارج ونجاحاتهم في السياسة والإقتصاد والتفوق العلمي، ويدعوإلى تفعيل وتحسين دور “الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم” لتحقيق التقارب بين لبنان ومغتربيه (ص.18). في نهاية هذا القسم من المحاضرة، يستنتج الفيلسوف والسياسي شارل مالك أن “الإغتراب اللبناني، بسعته وكثافته ومغزاه، يطبع لبنان بطابع مميّز، وبدون هذه الظاهرة في جميع العصور لم يوجد ولا يوجد لبنان” (ص.19)

إذا صح القول أن هذا الكلام بشأن الهجرة اللبنانية (وغيره في النص) جاء في زمن تصاعد فيه مستوى تحدي قيادة “المارونية السياسية” للنظام اللبناني (الأعمدة العشرة التي أوردها الكاتب تجسد رؤية المارونية السياسية للبنان ونظامه في ذلك الزمن، وهي هذا الجبل الفريد، القرية اللبنانية الفذة، مركز لبنان السياحي الممتاز، تجارته العالمية العجيبة، ظاهرة الاغتراب اللبناني بكل ما تعنيه تاريخياً وكيانياً، الحرية الكيانية المسؤولة، الإنفتاح على العالم في المكان والزمان، معنى لبنان الفكري المتواضع في الشرق الأوسط وفي العالم، وأخيراً، إسهام لبنان المتواضع في المعترك الدولي)، فإن الملفت هو ليس فقط تحول ما جاء بقلم مالك إلى بديهيات شائعة لدى اللبنانيين، وإنما أيضاً تعميم هذه الرؤية للهجرة من لبنان وللمهاجرين اللبنانيين على القوى السياسية المتنافسة مع “المارونية السياسية”، والتي تمكنت من تعديل موازين القوى نسبياً، في الدولة والنظام والمجتمع، لصالحها في السنوات اللاحقة على اتفاق الطائف عام 1989. فبعد اتفاق الطائف، تبنت القوى السياسية بكل أجنحتها الطائفية الموقف “المالكي” و”الماروني السياسي” من ظاهرة الهجرة اللبنانية، وأمست مصدر “فخر وعيب ومأساة في آن واحد” لدى جميع أركان السلطة. “فخر” لتشجيع وتعزيز التواصل على طريقة النظام وأركانه، أي خلق شبكة زبائنية بينهم وبين المغتربين لخدمة مصالحهم السياسية والإقتصادية. هذا بالمفرق وضمن الأطر الطائفية والأهلية التي توفر الشرعية لأركان السلطة في لبنان. أما المردودية بالجملة لتوصيف ظاهرة الهجرة بأنها فخر، فتتمثل بالدعم السياسي والمالي لزعماء المناطق التي يتحدر منها المهاجرون، وتوفير العملة الصعبة لتجار ومصارف لبنان عبر تحويلات المغتربين، كما أشرنا سابقاً.

ويصح هذا الإستنتاج في تقييم نتائج وصف الهجرة بـ “الفخر” عندما نكتشف بالتحديد أن مالك يضيف صفة “العيب” (الأخلاقية أساساً) و”المأساة” على هذه الظاهرة دون التطرق  إلى علاقة النظام السياسي والإقتصادي-الإجتماعي بتلك الصفات المضافة على ظاهرة الهجرة اللبنانية. وبما أنه غير معني، لا هو ولا أركان سلطة ما قبل وما بعد الطائف، بهذا الأمر، نراه لا يكتفي بجعل “السياحة” و”التجارة العالمية العجيبة” من الأعمدة العشرة للكيان اللبناني، بل يخلص إلى القول بأن ظاهرة الإغتراب ملازمة للمجتمع اللبناني وتشكل أحد أعمدته “الكيانية”. أي أنها قدر اللبنانيين الذي لا مفر منه.

تعاطي المغتربين مع لبنان

عموماً اتسم تعاطي المغتربين مع لبنان باندراجه ضمن الأطر التي رسمها النظام وأركانه منذ نشوئه عام 1943. وبقي المغتربون مصدراً اساسياً للعملة الصعبة عبر تحويلاتهم المتنوعة إلى لبنان، وسنداً سياسياً لزعماء المناطق التي تحدروا منها. والجدير بالذكر، أن العديد من المشاريع التي يموّلها المغترب في القرية أو البلدة أو المدينة التي يتحدر منها، تكون بمثابة التعويض عن واجبات السلطة المحلية أو سلطة الدولة، وغالباً ما تصب في مصلحة الزعيم في مكان تنفيذ المشروع.

وأمام الحروب الأهلية الباردة والساخنة التي شهدها لبنان (1958 و 1975-1990 و2006)، انقسم المغتربون وفق الخطوط السياسية التي رسمها أركان النظام (باستثناء السنة الأولى والثانية لاندلاع الحرب عام 1975 حيث ظهرت بوادر مهمة لمعارضة شعبية فعلية للنظام، ولاقت التأييد لدى بعض اللبنانيين في الأغتراب). ولم يتمكنوا من الخروج على هذه الأطر بالرغم من مسؤولية النظام والقوى السياسية المتحكمة فيه عن هجرتهم في الأساس، وعلى الرغم من اكتشافهم بالتجربة لمنافع وفوائد العديد من الأنظمة التي عاشوا في كنفها، أكان في الأمريكيتين أو البلدان الأوروبية.  

لحظة انتفاضة 17 تشرين الثورية وإعادة بناء موقف المغترب من النظام وأركانه

أهمية اللحظة التيمثلتها انتفاضة 17 تشرين، أنها كانت لحظة ثورية بعدة معاني. بالطبع لم تكن تلك اللحظة منفصلة عن السياق الذي انبثقت منه لجهة تصاعد درجة اختناق المواطن اللبناني عموماً، لا سيما العمال منهم والمزارعين وأصحاب المداخيل المحدودة وفئات واسعة من الطبقة الوسطى وفئة الشباب والشابات وكبار السن، تحت أعباء كلفة العيش الكريم، وسوء أداء القوى الحاكمة وفسادها المتفشي على مختلف المستويات، معطوفاً على تصعيد مستوى إرتهان السياسة اللبنانية للصراعات الأقليمية المحيطة بالبلد. إلا أن الرد الذي جسدته إنتفاضة 17 تشرين أتى ليس فقط من خارج قوى السلطة وامتداداتها الحزبية، وإنما جاء أيضاً مدفوعاً بنزع الثقة بالكامل عن تلك القوى ووضعها جميعاً في قفص الإتهام، لا بل تحميلها المسؤولية عمَّا وصلت إليه البلاد من تأزم وتدهور شامليْن على مختلف الصعد. وكان يكفي للمشاركين في الإنتفاضة أن يشهروا هويتهم اللبنانية الجامعة بقرار “عفوي” ومفاجئ للجميع، في وجه جميع رموز السلطة، وأن يطالبوا بالمواطنة هوية بديلة عن جميع الإنتماءات الأهلية وعلى رأسها الطائفية، لتشكل انتفاضة 17 تشرين لحظة ثورية بكل ما للكلمة من معنى بالنسبة للنظام السياسي اللبناني الأهلي-الرأسمالي. وبالطريقة ذاتها وجدت انتفاضة 17 تشرين من يلتقي مع مطالبها وبالحماس ذاته في أوساط واسعة في الاغتراب اللبناني، مما شكَّل لحظة جذرية مماثلة في تاريخ علاقة الإغتراب اللبناني بوطنه الأم والنظام السياسي السائد على أرضه. إغترابياً إذن، دشَّنت انتفاضة 17 تشرين علاقة جديدة مع الوطن تتناقض رأسياً مع العلاقة التقليدية والقائمة على مثلث “فخر وعيب ومأساة في آن واحد” في تعريفه للإغتراب اللبناني بصفته مكوناً من مكونات الكيان اللبناني.     

خلاصة القول، لا بدّ لأبناء وبنات انتفاضة 17 تشرين الفعليين من التمسك باللحظة الثورية للإنتفاضة (سحب الثقة من القوى الحاكمة، فرض المواطنة هوية سياسية -قانونية بدلاً من الهويات الأهلية، العدالة الإجتماعية، المساواة بين الرجل والمرأة، بناء دولة القانون والقضاء المستقل والكفاءة، قيام نظام ديموقراطي وبناء إقتصاد منتج)، والضغط من أجل تحقيق مطالبها عن طريق قيام الأحزاب والتحالفات والبرامج السياسية وخوض الإنتخابات والمعارك المطلبية في لبنان والإغتراب في آن واحد. 

Leave a Comment