زكـي طـه
مع نهاية الاسبوع الحالي يطوي لبنان مرحلة من تاريخه، ويدخل مرحلة جديدة ومختلفة نوعياً عما كان. مرحلة مشرعة على حشد من الاحتمالات والتحديات المصيرية، والتي يصعب التكهن بما ستكون عليه أحواله وما ستؤول إليه أوضاعه على شتى الصعد. أيام قليلة وتنتهي ولاية رئيس الجمهورية الحالي لكنها حاشدة بالاستحقاقات الدستورية والسياسية المتداخلة والمقررة في اندفاعة البلد نحو الفراغ والمجهول في آن. وهو الرئيس الذي وصل إلى سدة الرئاسة على رافعة الفراغ في موقع رئاسة الجمهورية عبر تعطيل الاستحقاق الدستوري ما يقارب عامين ونصف، بالشراكة مع حليفه المتمثل بحزب الله، ونجاحهما في فرض “تسوية” ارتهن البلد إلى نتائجها المدمرة ولم يزل.
لم يكن العهد الحالي الأسوأ بين العهود الرئاسية التي سبقته منذ تأسيس الكيان وحسب، بل كان أيضاً الأشد خطورة على أوضاع البلد ومصيره. وعدا سمة التعطيل والحكم بواسطة حكومات تصريف الاعمال طوال ما يقارب نصف سنوات ولايته، بذريعة تعثر تشكيل الحكومات، التي تسببت بها الشروط التعجيزية التي كان للتيار قصب السبق فيها دون منازع. إلا أن الأهم كان الانهيار الاقتصادي والمالي المعطوف على تداعي مؤسسات الدولة وأجهزتها، الناجم عن سياسات سائر اطراف السلطة وتياراتها الطائفية والفئوية في ميادين السياسة والاقتصاد، وهي المحصنة بقوة تسعير الانقسام الأهلي، على نحو يتجاوز ما عرفته البلاد طيلة سنوات الحرب الأهلية، التي لم يغادر طيفها ساحات الوطن. لكن الأخطر هو تزامن نهاية العهد مع العودة مجدداً إلى الفراغ على صعيد رئاسة الجمهورية في موازاة تفكك الدولة والانهيار على كل المستويات.
وما يؤكد هذا الانتقال، أن جلسات المجلس النيابي المتوالية لن تفضي إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلال المهلة الدستورية. لأن الكتل الاساسية التي تشكل منظومة السلطة، ليست بوارد التوافق على تسوية رئاسية انقاذية. وسط تجاهل تام لمفاعيل الأزمات التي تأسر حياة اللبنانيين وتحول دون قدرتهم على توفير الحد الادنى من مقومات العيش. كما وأنها لا تتردد في إحالة المسؤولية على تكتل “نواب التغيير”، وكأنهم هم المسؤولون عن أزمات البلد والذين يرفضون تنفيذ الاصلاحات المطلوبة لانقاذه. يعني ذلك أن المرحلة القادمة ستبقى محكومة لصراعات قوى السلطة على المواقع والمغانم، وفق ما هو متاح لها في اطار نظام المحاصصة الطائفية دون أي اعتبار لمخاطر الانهيار والفراغ. وهي في ذلك تستند إلى رهاناتها الخارجية المحاصرة بغموض الرؤية، بانتظار تحديد مواقعها في حصة لبنان، مما ستؤول إليه نتائج الحروب والنزاعات الدولية وامتداداتها الاقليمية المفتوحة في المنطقة.
وفي موازاة جلسات المجلس النيابي، يستمر مسلسل الشروط المتبادلة بشأن تشكيل الحكومة الجديدة دون جدوى. وفي هذا السياق وخلافاً لما كان خلال الاشهر السابقة، يقع إلحاح حزب الله بضرورة وجود حكومة جديدة تعفيه من تحمّل أية مسؤولية عن الاوضاع الراهنة، وتخفف من حدة مآزق سائر الاطراف على جميع الجبهات، في ظل تولي حكومة تصريف الأعمال صلاحيات رئيس الجمهورية. وفي هذا المجال تتقاطع مصلحة الحزب في أن تتشكل حكومة يقف خلفها ويستظل بها، باعتبارها رمز الدولة، مع مصلحة تيار العهد الباحث عن ضمانات استمرار دوره وحماية ما تحقق له من مواقع مهددة بالتبدد بعد انتهاء ولاية الرئيس مع انسداد أفق توريثه موقع الرئاسة. ولذلك يشهد البلد تصاعد التهديدات على ألسنة قيادة التيار، في موازاة تناسل شروطها التعجيزية للموافقة على تشريع بقاء الحكومة الحالية معدلّة، على نحو يضمن له التحكم بها وقيادتها أو تعطيل عملها من الرابية بديلاً عن قصر بعبدا.
وفي سياق محاولات الوصول إلى توافق مع الرئيس المكلف الذي يلقى تفهماً ودعماً صريحاً من كتل نيابية أخرى، تقع وساطة حزب الله القائمة على معادلة الحرص المتبادل مع التيار بعدم الاختلاف أو الاشتباك بينهما. لأن الخروج على أحكام تلك المعادلة يشكل خسارة للطرفين، في مرحلة مصيرية هما بأشد الحاجة للعلاقة بينهما. ولذلك فإن إمكانية إيجاد مخرج لتعويم الحكومة الحالية معدلة وفق صيغة تلبي الحد الأدنى من مطالب التيار، لا تزال متاحة حتى في الساعات الأخيرة. وكما كان الأمر مع سائر الحكومات خلال سنوات العهد، فلا شيء يحول دون استمرار التعطيل والشلل في حالة تعديل الحالية. علماً أن وجود حكومة دستورية يبقى أخف وطأة وأقل خطورة على البلد، من الفوضى الدستورية التي يُهدد بها التيار في حالة الجمع بين حكومة تصريف الاعمال والفراغ الرئاسي.
والقول بانتقال البلد إلى مرحلة جديدة ليس فيه مبالغة. خاصة وأن العهد يستعجل توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع العدو الاسرائيلي قبل مغادرته قصر بعبدا. وهو الاتفاق الذي تشكل الولايات المتحدة الأميركية الجهة الوحيدة الضامنة له بعدما أنجز بوساطة منها، وبموافقة سائر أطراف السلطة، وفي طليعتهم حزب الله الذي يتنافس مع آخرين على حصته ودوره في التوصل له، ولذلك لم يتأخر عن وصفه بالانتصار التاريخي الذي تحقق بفضل قوته ومسيّراته وحكمة قيادته. جرى الأمر وسط تجاهل تام لدور الولايات المتحدة التي تتحكم بمسارات تنفيذ الاتفاق الذي ينطوي على ثغرات كثيرة تسمح لاسرائيل بتعطيله. وبصرف النظر عن طبيعة الاتفاق والذرائع التي بررت القبول به، وتمرير التفريط الذي لا يحتمل الالتباس بالحقوق والمصالح الوطنية، فإن الاتفاق لم يكن له أن يُجاز لبنانياً دون موافقة الحزب ومرجعيته الاقليمية. ولأن الالتزام بما انطوى عليه الاتفاق من تطبيع غير مباشر، وبالنظر لما يتطلبه استكشاف النفط والغاز وصولاً إلى انتاجه من استقرار أمني إلى أمد غير منظور على الحدود وفي مواجهة العدو، فإن الأمر يطرح الكثير من الاسئلة ليس حول مصير ودور سلاح الحزب وحسب، إنما أيضاً حول موقعه وسياساته وأدائه بصرف النظر عن الخطاب الذي يكرره قادته.
والحزب في ذلك يختلف عن العهد الذي يحاول جاهداً تعويض الفشل المدوي الذي لازم دوره رئيساً وتياراً طوال ست سنوات، ليس من خلال ترسيم الحدود البحرية مع العدو الاسرائيلي، ومساعيه المستجدة لاستجداء فتح مسارات التفاوض بشإنها مع سوريا وقبرص. أما احتفالات العهد والتيار والتباهي باعلان لبنان دولة نفطية، وكل ما يقع في امتداد ذلك من وعود وانجازات مُدعاة، فإنه يقع في إطار محاولات التيار ورئيسه لاستعمال الاتفاق في معاركه المفتوحة مع خصومه من التيارات الاخرى، سواء في الساحة المسيحية أو في سائر ساحات الطوائف الاخرى، تحت راية حماية حقوق المسيحيين وصلاحيات الرئيس المسيحي.
وفي سياق انتقال البلاد إلى مرحلة جديدة في ظل العجز عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية، كان الاعلان عن مبادرة رئيس المجلس النيابي الاستباقية، باعتباره المرجعية الرئاسية الشرعية الوحيدة. والتي تستهدف تنظيم حوار بين الكتل النيابية في اعقاب شغور موقع الرئاسة من أجل التوافق على انتخاب رئيس. ما يعني عمليا إلغاء دور المجلس النيابي، وتحويل هيئة الحوار المزمع تشكيلها مرجعية تشريع ووصاية على الحكومة وادارة البلد، بصرف النظر عن وضعها الدستوري في ظل تعطيل الدستور وشلل مؤسسات الدولة وتعطيل أجهزتها الادارية والقضائية والخدماتية في موازاة الانهيار المالي.
مع دخول البلد مرحلة مصيرية مشرعة على المجهول ولا سابق لها في تاريخه، يتجدد سؤال ما العمل في سبيل بقاء الجمهورية وانقاذ البلد. والسؤال مطروح على نحو محدد على قوى المعارضة المستقلة، ومعها جميع النواب الحريصين على بقاء البلد بعيداً عن الاصطفافات الطائفية والارتهان للخارج، وعلى جميع اصحاب الحقوق والفئات المتضررة، وكل الباحثين والحالمين بوطن وجمهورية في بلد مصيره لم يزل سؤال يبحث عن جواب.
Leave a Comment