عبدالناصر العايد*
سجلت الثورة السورية منذ بدايتها العام 2011، صعوداً متزايداً للتيار الديني، وبعد أكثر من عقد من النضالات ها هي تسجل انتصاراً في العمق لذلك التيار، متمثلاً في احتمال استيلاء هيئة تحرير الشام، أو الفرع السوري لتنظيم القاعدة، على آخر مساحات الثورة والمعارضة السورية في شمال حلب، ليصبح تنظيم القاعدة هو الوارث لنضالات الشعب والمعارضة السورية بكل أطيافها، الوطنية، والقومية، والديموقراطية، واليسارية.
وقد جرت مراجعات لا حصر لها لفهم هذه الظاهرة وتعقب المسارات التي أفضت بثورة “الحرية والكرامة” إلى أن تكون فرصة تنظيم القاعدة للفوز بإمارة في سوريا، وانطوت تلك المحاولات كلها على التحذير من هذا المصير البائس، قبل أن يغدو واقعاً لا ينكر، وليست مُجدية استعادة تلك الفرضيات والاستنتاجات، فهي عديمة الفائدة بعدما مرّ أوانها، وهي لن تنفع أجيالاً قادمة ممن سينهضون بحلم التغيير الذي لا مناص منه، ولا الذين سينجحون بقدر ما بتجاوز أخطاء أسلافهم.
لكن انتصار التيار الديني، رمزياً وفعلياً، لا يعني أنه على دعاة التغيير الوطني الديموقراطي اليوم أن يخرسوا وينكفئوا. فميدان الصراع هو الحقل الاجتماعي المفتوح، لا يمكن أن تُسجل فيه هزيمة نهائية لأي طرف، لإنكفائه أو انعدام وجوده عسكرياً. فالأمر موضوع نضالات طويلة يتخلله الكثير من المد والجزر، وتتغير فيه أشكال وأساليب الصراع. وكثيراً ما هُزم تيار ما في مواجهة عسكرية، وعاد من البوابة السياسية أو الثقافية أو الاجتماعية، أو من منافذ لم تخطر للأسلاف في بال. لكن، في الوقت عينه، لا يجوز لدعاة التغيير الوطني الديموقراطي أن ينكروا نقاط ضعفهم الكثيرة، ومواطن الخلل والقصور التي أدت إلى هزيمتهم الحالية.
أول الحقائق التي يجب أن يقرّ بها الديموقراطيون السوريون بأطيافهم المختلفة، هو إن إيمانهم بما يدافعون عنه، ضعيف، أو ليس بالمستوى الذي يمكّنهم من مقارعة اتجاهات أيديولوجيا تستند إلى عقائد ومشاعر دينية شديدة الرسوخ في مجتمعاتنا. ونحن هنا لا ندعو لتحول الديموقراطية إلى أيديولوجيا، فهي غير قابلة لذلك. لكننا ندعو لأن يكون القائمون عليها أكثر عزماً على التمسك بها، وأن تكون قيمها أكثر وضوحاً وتمايزاً، وأن يكون الالتزام بها أكثر جديّة بما يداني على الأقل ما يتمتع به القائمون على الدعوات الأخرى من التيارات المناهضة، سواء كانت ذات مضمون ديني بحت، أو ذات جوهر طائفي/سياسي مغلّف بدعوة دينية. وأن يتم ربطها بحاجات المجتمع وتطلعاته وواقعه، على نحو يجعلها أملاً يستحق النضال من أجله، أي تحويلها إلى مشروع سياسي بمعالم محدّدة وبارزة. فالديموقراطية السورية، حتى هذه اللحظة، ليست سوى أفكار متفرقة تبث هنا وهناك، وتدخل في نمط عيش البعض على نحو نخبوي، بينما يمتلك خصومهم كل هذه المقومات بشمولية واقتدار، فلديهم مشاريع نظرية جاهزة لدول وإمارات متكاملة، وتصورات لسياسات داخلية وخارجية، وأدوات وأساليب مندغمة في الحياة الاجتماعية اليومية. ولديهم، وهذا هو الأهم، أمل يُمنح لجمهورهم، سواء كان انتصاراً دنيوياً عاجلاً، أو خلاصاً نهائياً في العالم الآخر، أي البُعد الطوباوي الرمزي بالغ التأثير سياسياً وفكرياً.
الحقيقة التالية التي على الديموقراطيين السوريين أن يقرّوا بها، وأن يتجاوزوها، هي عجزهم التنظيمي. فليس من المنطق أن يتمخض أكثر من عقد من الزمان من النضال والكفاح المرير في سوريا، عن عشرات التنظيمات الدينية الراسخة، سنيّة وشيعية، ودرزية ومسيحية وشيعيّة، مع الافتقاد إلى أي تنظيم أو “عنوان” على الأقل لتنظيم وطني ديموقراطي. بل أن لا أمل حتى بظهور تنظيم يمثلهم في المدى المنظور، فجمعهم المبعثر يجعلهم أشبه بالقطط التي يستحيل أن تتحول إلى قطيع، وهذا ناشئ من الطبيعة “الثقافوية” لهذا التيار. فالثقافة تفرق وتبعثر، وقد يبرع المثقفون في “فهم” كل شيء، بما في ذلك السياسة، لكنهم لن يتقدموا في إطار ممارستها قيد أنملة ما لم يخلعوا عباءة التنظير ويتحولوا إلى ساسة ميدانين، بما يعنيه ذلك من واقعية، وحس عملي ومثابرة ومجالدة.
يتعين على الديموقراطيين أيضاً التمييز بين الديموقراطية وبين العدائية للدِّين. بدقة أكبر، التفريق بين التدين الاجتماعي، وهو ظاهرة تاريخية تميز مجتمعاتنا، وتنظيمات الإسلام السياسي المنافسة لهم. فمن حقهم أن يهاجموا خصومهم السياسيين بالقدر والوسائل كافة التي تسمح بها قواعد اللعبة السياسية، لكن من دون الانزلاق إلى محاربة مجتمعاتهم أو استهداف المشاعر الدينية من أي انتماء كان. وهذا الخلط الشمولي، الذي لا ينتمي إلى ميدان السياسة، هو سبب عزلة التيارات الديموقراطية وعجزها عن النفاذ إلى متن مجتمعاتنا، وخلو الميدان للتيارات الدينية لتشكل السياسة في تلك المجتمعات كما تشاء.
إن هذه الإشكالية القديمة في المجتمعات المشرقية، لا تقتصر على المجتمع السوري؛ فالصراع قائم في إيران التي تشهد ثورة صاخبة، وفي مجتمعات الخليج العربي التي تجري فيها التحولات بهدوء وبطء، وفي العراق ولبنان، بل وفي تركيا التي قطعت أشواطاً من التقدم من دون تسجيل انتصار نهائي لأي من الطرفين. الجبهة التي يصارع عليها الديموقراطيون السوريون، إذن، واسعة، وتطوراتها الإقليمية والدولية قد تكون رافعة إضافية لهم في الوقت الذي يظنون فيه أن هزيمتهم أصبحت تامة. لكنهم لن يتمكنوا من اغتنام أي من تلك الفرص إن تخلوا عن معركتهم اليوم، وإن توقفوا عن محاولات تنظيم نفسهم في أطر صلبة، فهذه وحدها ما يمنح رؤاهم إمكانية التحقق في المستقبل.
*نشرت في الزميلة المدن الالكترونية الأربعاء الموافق في 2022/10/19
Leave a Comment