شهد جان-بيير فيليو مأساة شعب يوشك أن يُمحى من الجغرافيا والتاريخ معًا
لا يقدّم جان-بيير فيليو في كتابه “مؤرّخٌ في غزّة” مجرد ملاحظات ميدانية أو تأملات فكرية عابرة، بل يُودِع فيه شهادة حيّة، عميقة، تشبه صرخة مدفونة في صدر مؤرخ لم يعد قادرًا على التزام الحياد. تجربة إنسانية مكثفة عاشها فيليو وسط ركام قطاع غزة، تحولت إلى عمل أدبي وصحافي وسياسي في آن، وثّق فيه ما رآه، وما فُرض عليه أن يشهده، في واحدة من أكثر اللحظات التاريخية اشتعالًا، في زمن بات فيه مجرد رؤية الحقيقة فعلًا مقاومًا.
عاد المؤرخ الفرنسي إلى غزة في عام 2023، عبر مهمة إنسانية مع منظمة أطباء بلا حدود، بعد أن مُنعت وسائل الإعلام الدولية من دخول القطاع، وصار التوثيق الحيّ محصورًا في من يملك الجرأة على الدخول، أو من يحيا هناك بجلده ولحمه. أراد فيليو أن يرى بعينيه، أن يقترب من المشهد بلا وسائط، وأن يكتب ما لا يُسمح بتصويره، في وقت بلغ فيه الدمار والخذلان ذروتهما.
دخل غزة ليلًا، وسط صمت كثيف يلفح الروح قبل الجسد. لم يرَ مدينةً بقدر ما رأى ذاكرة مكسورة، فضاءً يحمل بصمات من عاشوا فيه وقُصفوا في أحلامهم، قبل بيوتهم. منذ الوهلة الأولى، أدرك أنه لا يواجه فقط كارثة إنسانية، بل يشهد مأساة شعب يوشك أن يُمحى من الجغرافيا والتاريخ معًا. الحصار لم يعد مجرد إجراء أمني، بل صار أسلوب حياة مفروض، يُعيد تشكيل المفردات اليومية للناس، من الخبز إلى الماء، ومن الحركة إلى الحلم.
بأسلوب نقدي صريح، يشرح فيليو كيف جرى تفريغ المفاهيم الكبرى من مضمونها. لم يعد الاحتلال يُسمى احتلالًا، بل “تنسيقًا أمنيًا”، وهو تعبير لا يصف شيئًا سوى تواطؤ مُعلَن مع واقع عسكري جاثم فوق الأرض والسماء. يستعرض التحولات التي أعقبت اتفاقيات أوسلو، حيث كان يُفترض أن تُفضي إلى السلام، لكنها -كما يوضح- مهدت لحصار غزة وعزلها عن محيطها، فيما توسّع الاستيطان في الضفة، وتحوّل الحلم الوطني إلى خيبة منظمة.
ويصف فيليو قطاع غزة كما لو كان قفصًا بشريًا هائلًا، لا يُسمح بالدخول إليه إلا عبر بوابات ضيقة يتحكم فيها الجيش الإسرائيلي، وتُدار من خلال “كوغات”، وهو جهاز تنسيق مدني وعسكري يفرض شروطًا عبثية، تصل إلى حدّ حساب عدد السعرات الحرارية التي يُفترض أن تستهلكها كل نفس في القطاع المحاصر. يدخل فيليو غزة عبر معبر كرم أبو سالم، بعد رحلة معقدة من الأردن، ليواجه صدمة لا تمحى: المدينة التي كانت واحة حياة، باتت خرابًا واسعًا. كل زاوية فيها تروي فصلاً من رواية حزينة، وكل بيت مهدوم يحتفظ بصدى حياةٍ انطفأت قبل أوانها.
في منطقة المواصي، التي كانت ذات يوم أراضٍ زراعية خصبة، يجد فيليو نفسه أمام مشهد أشبه بخريطة احتلال دقيق: منطقة محاصرة بالكامل، تحيط بها المستوطنات من كل جانب، فتبدو كجُزر سُحبت منها الجغرافيا. هناك، يتحوّل من مؤرخ إلى جغرافي، يقرأ التضاريس بوصفها مرآة للسيطرة، والانغلاق، والعزل القسري. ومن بين القصص التي يرويها، تقفز حكاية الكاردينال بيزابالا إلى الواجهة، الرجل الذي مُنع طيلة ثمانية أشهر من زيارة أتباعه المسيحيين في غزة، ولم يُسمح له بالدخول إلا بعد تدخل مباشر من البابا، لقضاء ليلة واحدة. كانت هذه الليلة رمزًا بليغًا، تكشف أن حتى الشعائر الدينية صارت جزءًا من سياسة المنع والسيطرة.
ثم يخصص فصلًا مؤلمًا للحديث عن استهداف المستشفيات، التي باتت تُتهم تلقائيًا بإيواء عناصر من حماس، رغم أن تقارير الأمم المتحدة تُكذب تلك الادعاءات وتحذّر من التدمير المنهجي للقطاع الصحي. أما أطول فصول الكتاب، فيغوص فيه في أزمة المياه، ليرينا كيف تحوّلت المياه إلى سلاح سياسي، بل وحتى الأمطار لم تسلم من السيطرة، في نظام تبدو فيه كل قطرة حياة محاصرة، ومُراقبة، ومُحوّلة إلى أداة إذلال جماعي.
ورغم أن فيليو يكتب بلغة شخصية متأثرة، إلا أن خلف كل مشهد هناك منهج صارم، وعين مؤرخ لا تغفل التفاصيل. يروي حكايات الغلاء الفاحش، وشاحنات الإغاثة التي تُنهب ثم تُباع محتوياتها بأسعار خيالية، ويتحدث عن الصحافيين المحليين الذين يغامرون بحياتهم لتوثيق الحقيقة، في ظل غياب شبه تام لوسائل الإعلام الأجنبية.
ما يميز هذا العمل، أنه لا يخضع للقوالب الجاهزة: ليس تقريرًا حقوقيًا تقليديًا، ولا تحقيقًا صحفيًا مباشرًا، بل نصٌ يعيش في تقاطعاتٍ حساسة بين السرد السياسي، والبحث التاريخي، والالتزام الأخلاقي. يكتب فيليو من موقع الشاهد، لكنه لا يتخلى عن أدوات التحليل، ولا عن حساسيته كباحث، رغم أن ازدواجية أدواره -كمؤرخ، وجغرافي، وصحافي، وإنساني- قد تجعل النص في بعض أجزائه مُحمّلاً أكثر مما ينبغي، وتربك القارئ أحيانًا في التمييز بين ما هو واقعة تاريخية، وما هو ملاحظة آنية.
يبقى أن نُشير إلى ما يشكّل أحد أهم الثغرات في الكتاب: غياب الصوت الفلسطيني المباشر. فباستثناء إشارات إلى الصمود والمقاومة، لا نسمع كثيرًا من تفاصيل الحياة اليومية من أفواه أهلها، ولا عن نظرتهم إلى السلطة الفلسطينية، أو موقفهم من حماس، أو تصوراتهم عن المستقبل. وهو غياب مؤسف في عمل يسعى ليكون مرآة لواقع شعب، لا فقط شهادة مراقب.
في خاتمة الكتاب، في فصل يحمل عنوان “شمشون”، يستدعي فيليو الصورة التوراتية للبطل الذي يدمر نفسه وخصومه معًا، ليُعبّر عن يأس الفلسطينيين، وضياع العدالة الدولية، واستنزاف المعايير الأخلاقية. هي خاتمة حزينة، مثقلة بالرمزية، لكنها في الوقت ذاته صريحة إلى حدّ القسوة، لا تترك مجالًا للتفاؤل الزائف، بل تضع القارئ أمام مسؤوليته الأخلاقية: ألّا يُدير ظهره لما يجري. إنه ليس مجرد كتاب، بل نداء. نداء من مؤرخ اختار أن يخرق الصمت، وأن يسجل الجرح، وأن يدوّن، بحروفه، صرخة شعب يُباد ببطء، على مرأى من عالم يصمّ أذنيه، ويشيح بوجهه عن جرح لا يتوقف عن النزف.
* نشرت على موقع المدن بتاريخ 23 حزيران 2025