مجتمع

عقم الإضرابات القطاعية المتفرقة وتحديات التحرك الموحّد

غسان صليبي

تتوالى الإضرابات في القطاع العام وفي القطاعات التي تخضع لوصاية الدولة: إضرابات العاملين في القطاع العام وفي “أوجيرو”، وقبلها في الكهرباء، إضرابات المعلمين وأساتذة الجامعة اللبنانية، إضراب القضاة، وغيرها. يجمع بين هذه الإضرابات محاولتها تقليص خسارة العاملين على مستوى الأجور والتقديمات الاجتماعية، نتيجة انهيار مالية الدولة والانخفاض المريع لسعر صرف الليرة اللبنانية، لذلك تطالب بتصحيح الاجور وبالمساعدات المالية التي وعدت بها الدولة، إضافة لحماية تقديماتها.

يجمع بين هذه الإضرابات أيضا أنها تطالب الحكومة بصفتها المسؤولة عن تلبية المطالب من موازنتها. اي أن الخصم واحد، ومصدر الأموال واحد أيضا، مما يجعل هذه الإضرابات تضغط على طرف واحد. لكنها في المقابل تتنافس عمليا على اقتطاع جزء مما تبقى من موازنة الدولة المفلسة، فما ينجح في الحصول عليه قطاع معين، ينتقص مما يمكن أن تحصل عليه القطاعات الاخرى، وقد يحرمها مما يعود إليها من حقوق. وقد تمظهرت هذه المنافسة، في رفض الكثير من القطاعات قرار تمييز القضاة عن الموظفين الآخرين في احتساب سعر صرف الدولار، مما أدى إلى التراجع عن هذا القرار، وإعلان القضاة الإضراب احتجاجا. إذا استمر هذا الوضع على ما هو عليه بدون خطة تعافٍ حقيقية، فمن المحتمل أن يؤدي هذا التسابق غير المنسّق بين الإضرابات إلى الإفلاس التام والتوقف عن دفع الأجور.

المشترك أيضا وأيضا بين هذه الإضرابات أنها تطال سلبيا حياة المواطنين، في معاملاتهم الإدارية والقضائية، وفي حصولهم على الخدمات العامة من كهرباء وتعليم وانترنت وغيره. كما أن معظمها يدور في حلقة مفرغة، في مواجهة تعنت المسؤولين او اكاذيبهم او مراوغاتهم، وإذا تمكن بعضها من تحصيل بعض المكاسب، فستكون آنية لا يلبث التضخم أن يلتهمها.

لا يتحمل المضربون وحدهم مسؤولية هذا العقم في النتائج، كما لا يُلامون وحدهم على المس بمصالح الناس بفعل إضراباتهم. فما يحصل هو نتيجة عوامل قاهرة تتحكم بتحركاتهم، فهم يتصرفون، تماما كما يتصرف المرء الذي يقف على مشارف الهاوية، وهو مقبل على السقوط حتما إذا لم  يتمسك بخشبة خلاص. فقد انهارت مداخيلهم وتراجعت قدرتهم على العيش بكرامة، وكل التوقعات تقول لهم ان الأوضاع ستتدهور أكثر. مع ذلك أصبح واضحا أن هذه التحركات لن تحول دون السقوط في الهاوية ولن توقف التدهور في الاوضاع المعيشية، وهي بالتالي تستحق المراجعة، لعل المضربين يسلكون طرقا أخرى، تحافظ على حقوقهم وعلى مصالح الناس على حد سواء.

فلنخرج قليلا من لبنان ولنلاحظ كيف تتصرف النقابات العمالية في العالم في الأزمات الاقتصادية. إن تتبّع تاريخ الحركة النقابيّة في العالم يشير الى أنه طالما أنّ الجماعة العمالية لم تأخذ بعد مكانها في الوطن، أي طالما أنّها لا تشترك بشكل تنظيمي في رسم السياسة الإقتصاديّة الإجتماعيّة على مستوى الوطن – وهذه كلّها من خصائص الحركة النقابيّة اللبنانيّة– في هذه الحالة تأتي المواقف النقابيّة بشكل ردّ فعل تجاه وضع اقتصادي معيّن. أي إنّ قوّة أو ضعف، إيديولوجيا وسياسة الحركة النقابيّة، مرتبطان اشدّ الإرتباط بالوضع الإقتصادي. ففي أوقات النمو الإقتصادي، عندما يميل الطلب على اليد العاملة الى تخطّي العرض، تكبر احتمالات تمكّن العمّال المنظّمين من فرض أنفسهم، وبالتالي تزداد فرص النقابات في النجاح ويقوى موقعها. في هذه الحالة تميل الحركة النقابيّة وأصحاب العمل الى التعاون والتفاوض والى تفادي تدخّلات الدولة. يسيطر في هذه الحالة على الحركة النقابيّة الخط الإصلاحي.

أمّا في أوقات الأزمات الإقتصاديّة وازدياد البطالة فيتضاءل حجم تأثير النقابات على الإقتصاد ونسبة العمالة ومستوى الأجور، ممّا يضعف قوّتها ويقلّل فعاليّة تحرّكها. تجاه هذه الأوضاع تصبح الأهداف النقابيّة أكثر ثوريّة، فأمام المصاعب الإقتصاديّة تتوجّه التنظيمات النقابيّة نحو الحلول السياسيّة وتطرح تغيير النظام والسياسات كما أنّ تحرّكها العملي يأخذ أحيانا طابع القوّة والعنف.

جرت منذ اسبوعين محاولة لتنسيق التحركات القطاعية، فانعقد “المؤتمر النقابي الوطني” الذي دعت اليه رابطة موظفي الادارة العامة في نقابة المهندسين في بيروت نهار الأربعاء الواقع فيه 24/8/2022. وشارك في المؤتمر الاتحاد الدولي  للنقابات، ومنظمة العمل الدولية واتحادات ونقابات عمالية وتربوية وتجمعات وتيارات وروابط نقابية وتربوية  واجتماعية، والمجلس التنسيقي لروابط المتقاعدين. وصدرت عن المؤتمرين التوصيات التالية:

الإصرار على حق التنظيم النقابي لموظفي القطاع العام وفقاً للدستور وللاتفاقية الدولية 87، تأكيد شمولية المطالب والحقوق والأهداف والمواجهة ضد السلطة الحاكمة التي اوصلت البلاد والإدارة إلى ما وصلتا اليه من انهيارات وكوارث، والمثابرة والنضال حتى استعادة الحقوق وتصويب الخلل، العمل على توحيد كل المتضررين من هذه السلطة ضمن شعار: “نعم لدولة الرعاية الاجتماعية – دولة العدالة والجدارة وتكافؤ الفرص، والشفافية والمواطنة الحقة”،

الدفاع عن القطاع العام والرفض القاطع لبيع المرافق العامة أو خصخصتها ورفض التعاقد الوظيفي، تصحيح وتعزيز أوضاع العاملين في القطاع العام  بكافة تصنيفاتهم الوظيفية من خلال مجموعة من الإجراءات (نص عليها البيان) تحافظ على قيمة الأجر والتقديمات الاجتماعية.

واجمع المؤتمرون على رفض ربط  الدولار الجمركي الذي تصر الحكومة على اعتماده، او غيره من الضرائب والرسوم سواء  الواردة منها في مشروع الموازنة او غيرها، بتغطية كلفة ما يجب ان يعاد لموظفي القطاع العام  من حقوق، وأكدوا  ان الدولة ليست مفلسة وما يحكى عن العجز في تلبية مطالب الموظفين وتامين حقوقهم كافة، ليس صحيحا وتدحضه الوقائع، فأموال الدولة منهوبة وموهوبة ومهدورة ولا بد من استردادها، وتوافق المجتمعون على اعتبار المؤتمر مؤتمرا دائما ومستمرا ومفتوحا أمام كل القوى النقابية  والاجتماعية واتفقوا على عقد اجتماع موسع لكل المشاركين فيه، في وقت يتفق عليه قريبا. وذلك لوضع خطة متابعة بمختلف الوسائل المتاحة بالدستور والقوانين المرعية، وصولا الى استعادة الحقوق.”

انعقاد المؤتمر مبادرة جيدة وفي وقتها، وهي تعترف بالحاجة إلى تنسيق الإضرابات القطاعية إذا أرادت تحقيق مطالبها، وبضرورة وضع “خطة متابعة” قريبا، سيكون من المفيد أن تكون نتيجة مراجعة نقدية للتحركات السابقة.

أكثر ما يهمني في ما يخص هذه المبادرة، هو مدى قدرتها على التحول إلى حركة تطرح حلولا سياسية لأزمة مالية واقتصادية، اثبتت التجربة العالمية والمحلية انه لا يصلح في ظلها الاكتفاء بالمطالب المهنية والمعيشية. هذا التحول يتطلب تحقيق ثلاثة شروط: تنسيق وتنظيم جيد بين القطاعات المعنية، أطروحات سياسية واضحة يمكنها أن تعالج الأزمة المالية والاقتصادية الكفيلة بتلبية المطالب، قدرة على الضغط على السلطات المعنية وعلى من يحميها من قوى عسكرية، رسمية وغير رسمية.

يبدو ان التنسيق بين القطاعات، قد بدأ من خلال المؤتمر الذي انعقد، لكن هذا التنسيق يعترضه صعوبات. ففي الاتحادات النقابية العامة على مستوى الوطن، يجري التنسيق عادة بين القطاعات من خلال بنية الاتحاد العام، الذي تنتمي إليه التنظيمات القطاعية. للاسف، هذه العلاقة التنظيمية غير متوفرة: اولا لغياب الاتحاد العمالي العام عن التحرك، ثانيا لافتقار تنظيمات القطاع العام إلى اتحاد عام يجمعها ولحرمانها قانونا من الحق في التنظيم النقابي، ثالثا لغياب جميع  النقابات المعنية بالمؤسسات التي تملكها الدولة، والتي رفض المؤتمر خصخصتها. كذلك يجب التنسيق مع المواطنين كمتلقين للخدمات العامة، حتى لا يتحولوا الى خصوم بسبب تأثير الإضرابات على مصالحهم.

بالنسبة للأطروحات السياسية لمعالجة الأزمة المالية والاقتصادية، انتقد المؤتمرون السلطة وحمّلوها مسؤولية الانهيار الحاصل على جميع الصعد، كما رفضوا ما تقترحه من رفع للدولار الجمركي لتلبية ما تطالب به الإضرابات. كل ذلك لا ينفع إذا لم يكن للمؤتمر موقف سياسي من أزمة تشكيل الحكومة المكلفة معالجة الازمة، وإذا لم يعمل على طرح بديل لخطة التعافي تأخذ في الاعتبار ان الخزينة منهوبة وليست مفلسة، هذه الخطة المنوي مناقشتها قريبا في المجلس النيابي، والتي من خلالها يمكن النظر بموضوعية واستراتيجياً للمطالب المطروحة أو التي يمكن أن تطرح.

اما في ما يتعلق بالقدرة على الضغط لتحقيق المطالب المعيشية والمالية والسياسية على حد سواء، وهي غير قابلة للفصل في ما بينها في زمن الانهيار، فالمسألة أكثر خطورة. ذلك انه تبين أن الإضرابات غير كافية لممارسة الضغط، كما أنها تصيب مصالح الناس أكثر مما تؤثر في قرارات السلطة. وبالتالي سيحتاج المضربون إلى اللجوء إلى وسائل أكثر احراجا وأذيةً لاركان السلطة، وهذا ما يطرح إمكان الاصطدام بالقوى الأمنية الرسمية، أو بـ”حزب الله”، الذي يحمي السلطة، تماما كما حصل إبان الانتفاضة. ولا شك أن الشرط الثالث هذا سيدفع المضربين إما في اتجاه تأمين الشرط الثاني “السياسي” أوعلى العكس في إتجاه البحث عن كيفية تفاديه، درءا لمخاطر المواجهة. على الأرجح ستكون القوى الأمنية الرسمية (الجيش خاصة) وكذلك “حزب الله”، حذرة في مجال استخدام القوة تجاه التحركات الشعبية، بقدر ما ستكون مصممة على عدم السماح بخربطة حساباتها، لمناسبة انتخاب رئيس للجمهورية.

Leave a Comment