انتهت حملة التبرعات التي أطلقتها السلطة تحت مُسمّى “السويداء منا وفينا”، بعدما حظيتْ بتغطية إعلامية واسعة. ما هو متداول على السوشيال ميديا صريحٌ لجهة وجود رفض واسع للحملة من قبَل أبناء السويداء، والأكثر “اعتدالاً” بينهم هم الذين يربطون أن تكون “السويداء منا وفينا” بإجراء تحقيقات محايدة نزيهة في أحداث تموز وما تلاها، وتقديم مرتكبي المجازر والانتهاكات إلى العدالة، بلا تمييز من أي نوع.
في الغضون خرج الشيخ حكمت الهجَري بكلمةٍ، الجديدُ فيها هو استخدام اسم “جبل الباشان”، وهي تسمية توراتية لمناطق في جنوب سوريا تضمّ حوران بجبلها وسهلها. الرسالة بالطبع سياسية، وتعني الافتراق الكامل عن تاريخ “جبل العرب”، وهي التسمية التي لطالما استخدمتْها قيادات درزية كدلالة على الانتماء إلى المحيط العربي الواسع، بل كدلالة على أصالة الانتماء الدرزي إلى العروبة. ومن الواضح أن الهجَري لم يستخدم تسمية “جبل الدروز”، وهي تسمية لن تثير لدى كثر (خارج السلطة) الحساسية التي تثيرها استعادة التسمية التوراتية بما ترمز إليه من انفصال عن سوريا والتجاء إلى إسرائيل.
وقبل أسبوع تم احتواء الوضع المتفجر بين السلطة وقوات قسد، في حي الشيخ مقصود في حلب الذي تسيطر عليه قسد. سبقت الاشتباكات الواسعة في “الشيخ مقصود” احتكاكاتٌ أقل وزناً على محاور التماس في المناطق الشرقية من سوريا، وأتت الوساطة الأميركية لتضع حداً للجو المشحون الذي كان يهدِّد بجولة قتال دموية، مع وعدٍ غير محدد باستئناف المفاوضات بين الجانبين لتنفيذ اتفاق العاشر من آذار الماضي، والذي كان من المفترض تنفيذ بنوده نهاية العام الحالي.
نظرياً، يبدو أن هناك قوتين تمنعان سيطرة المركز على السويداء والجزيرة، فليس سراً أن المسؤولين الإسرائيليين هددوا السلطة إذا تجاوزت الخطوط الحمراء التي رسمتها تل أبيب جنوبَ دمشق. وليس سراً أيضاً أن قسد موجودة برعاية أميركية، لذا لا تستطيع السلطة شنّ حرب عليها في الوقت الذي تخطب فيه ودّ واشنطن، ومن نافل القول إنها لا تستطيع بالمطلق مهاجمة هدف تحت المظلة الأميركية. وحتى أنقرة، بقوتها العسكرية الضخمة، التزمت بحدود التفاهمات مع واشنطن فيما يخص قسد.
تشير هذه الوضعية إلى عجز قيادات السويداء، ممثَّلة بالهجَري، على اجتراح حل نابع من القوة الذاتية. وكذلك حال قسد، إذ يُوحى بأنها تعتمد كلياً على الحضور الأميركي، وستسقط بالضربة القاضية لمجرد رفع الغطاء الأميركي عنها. هذا سيشيع فكرة مفادها أن الحل هو في الخارج، فالاتفاق مع واشنطن سيسحب الغطاء الأميركي عن قسد، وتُضطر إلى الاستسلام سلْماً أو حرباً. و”مراعاة” الهواجس الإسرائيلية في الجنوب ستجعل أبيب تتخلى عن دعم الهجَري وما يمثّله، ليكون استسلام السويداء أسهل من قسد.
وكما نرى، فهذه الفكرة الشائعة تتجاهل الأسباب الداخلية الخاصة بمجموعات سورية، مثل الدروز والأكراد والعلويين، لتذهب إلى ما يُظَنّ أنه علاج سريع وفعّالٌ بكسبِ الخارج. وبقليل من الانتباه يمكن ملاحظة عدم جدّة هذه الفكرة، فالأسد الأب ومن ثم وريثه واظبا على إنكار الأسباب الداخلية للأزمات في سوريا، ووصما المخالفين والمعارضين بأنهم عملاء للخارج، وقد أعلن الوريث مراراً في السنوات الماضية عن استعداده للتفاوض مع “أسياد المعارضة” من دول داعمة، لكنه غير مستعد للشروع في تفاوض حقيقي مع المعارضة.
يستند التركيز على الخارج إلى أن الداخل، أو جزء منه، عاجز عن الفعل من دون دعم خارجي. وعلى أن السلطة المركزية لا تنضب شرعيتها، فقط لأنها مركزية، وأُضيف إليها أخيراً القول إنها تمثّل الأغلبية المذهبية. الاعتبار الأخير هو ما راح يُلوَّح به، حيث يُعتقد أن الأكثرية العددية كفيلة بحسم الصراع مع الأقليات، متى رفع الخارج يده. وما يظهر عددياً كأنه من البديهيات لا يخضع لامتحان ذهني حقيقي، يخرج بالأرقام من حيز الحسابات الرياضية إلى الواقع.
فإذا نُحّيَ التدخل الخارجي تماماً، بما في ذلك التدخل التركي ضد قسد، يمكن وقتها تخيُّل معركة من نوع مختلف، لا تحسمها الكثرة العددية إلا بحمام دم قلَّ نظيره. السيناريو نفسه يمكن تخيُّله في السويداء، إذا قرر عشرات الآلاف من المقاتلين خوض معركة حياة أو موت. لقد فشل الأسد في القضاء على فصائل متواضعة تسليحاً، رغم أنه كان يملك ترسانة ضخمة من الأسلحة لا تقارن بالعتاد المتواضع الذي تملكه السلطة حالياً، وهذا درس قريب وبثمن باهظ جداً.
خيار الحسم العسكري لن يكون بالسهولة التي يُراد تصويرها، ما لم تكن السلطة مسنودة بدعم خارجي متعدد الأبعاد. إلا أن عجز السلطة لا يتوقف عند الشق العسكري، فهي أيضاً عاجزة عن اجتراح تسويات سلمية في السويداء والجزيرة، إذا توفرت النوايا الحقيقية لديها. هنا، قد لا ينتبه معظم أنصار السلطة إلى كونها انتقالية، بل إن معظمهم لا يخفي الاستياء من هذا الوصف الذي يرونه انتقاصاً من شرعيةٍ يريدون لها أن تكون مطلقةً. لكن الطبيعة الانتقالية، مهما أُنكِرت، تضع السلطة في موقع العاجز عن البحث في حلول متوسطة أو بعيدة المدى؛ مرة ثانية إذا توفرت النوايا.
الفيدرالية التي تريدها قسد، والحكم الذاتي الذي قد يقبل به الهجَري ومن يمثّل، هي مطالب لا تستطيع السلطة تلبيتها لكونها انتقالية. والنوايا الطيبة تقتضي أن تكون السلطة في طليعة من يذكّر بماهيتها الانتقالية، فلا يستند رفضها هذه الطروحات إلى كونها سلطة تحتكر الدولة والشرعية. على هذا الصعيد، لا يُعتدّ بما وضعته السلطة لنفسها من أطر، وبما منحته لنفسها من صلاحيات واسعة استثنائية، فهذه كلها بمثابة أمر واقع، طالما أنها لم تأتِ عبر صناديق الاقتراع.
الأطراف الثلاثة المُشار إليها عاجزة في الواقع عن الحسم العسكري، وعاجزة عن إبرام تسويات سياسية ترضيها معاً. لكن الحل غير مستحيل، إذا تم تجاوز ما يُظنّ أنها بديهيات، من قبيل الإصرار على الفصل بين توحيد الدولة وطبيعة الحكم فيها، أو توحيدها على النموذج الذي كان من قبل، والنظر إليه كنموذج وحيد أوحد، من دون تفكير جاد في أنه كان من الدوافع الكبرى العميقة لاندلاع الثورة.
ما يحلّ الاستعصاء، والشروخ التي لا يكفّ عن توليدها، هو الاعتراف بالحاجة إلى جمعية تأسيسية سورية. فالجمعية التأسيسية التي تمثّل حقاً أطياف المجتمع السوري وحدها القادرة على امتلاك شرعية مؤقتة حتى يحين موعد الشرعية الانتخابية، ووحدها تالياً القادرة على الاتفاق على مبادئ عامة لنظام الحكم. وفيها سيكون ممكناً تداول الأفكار المتباينة، والمتناقضة أحياناً، بهدف تدوير الزوايا ضمن منظور التشارك والمشتركات لا الهيمنة.
سوريا ليست البلد الأول على هذا الصعيد، فالعديد من البلدان التي خرجت من حرب داخلية حدث التحوّل فيها عبر مؤتمرات وطنية وجمعيات تأسيسية. القفز على هذا الاستحقاق لا يعني انعدام الحاجة إليه، وكما في الديون المستحقة للبنوك، ما يكون مستحقاً الآن، ويُمتَنع عن سداده، يدُفع فيما بعد مع الفوائد.
* نشرت على موقع المدن بتاريخ 14 تشرين الاول 2025
