*سلام الكواكبي
في مجتمعاتٍ تتنفس القهر، تنشأ لغةٌ خاصة لتجميل الاستبداد. تتحول المفردات إلى أدوات تخديرٍ جماعي، ويُعاد تشكيل الوعي حتى يغدو الظلم نوعاً من “الحكمة”، والقهر ضربًا من “القيادة الراشدة”. هنا تبدأ النخبة -التي يُفترض أنها البوصلة الأخلاقية للأمة- في تبرير ما لا يُبرّر، لا عن جهلٍ فقط، بل عن مصلحة. فحين تتماهى الأقلام مع السلطة، وتستبدل الشجاعة بالمراوغة، يصبح الكلام عن الحرية فعلاً شِبهَ ثوري. ومن بين المفاهيم التي ابتكرتها بعض النخب العربية لتبرير طاعة المستبد، برزت عبارتان تخدعان السمع والعقل معًا: “المستبد العادل” و”المستبد المتنوّر”.
في العالم العربي، يبدو أن الحاكم المستبد لم يعد بحاجة إلى أجهزة أمنية بقدر حاجته إلى نخبةٍ مخلصة تتولى عنه مهمة التبرير. لم يعد القمع وحده يكفي، فالرصاص لا يصنع شرعية، لكنه يحتاج إلى كلماتٍ مطليّة بالبلاغة تبرّر الدم وتُعيد صياغة الجريمة على هيئة “ضرورة وطنية”. هنا يظهر دور المثقفين والسياسيين والأكاديميين الذين حوّلوا الطغيان إلى فلسفةٍ أخلاقية، واختبأوا خلف مفاهيم ناعمة مثل “المستبد العادل” و”المستبد المتنوّر” ليخفوا انتهازيتهم خلف قناع الحكمة.
هذان المفهومان هما من أكثر الأكاذيب التي اخترعتها النخب لتخدير ضمائرها. “المستبد العادل” هو ذلك الحاكم الذي يُخضع الناس “من أجل مصلحتهم”، ويصادر الحرية بدعوى الاستقرار، ويكمّم الأفواه باسم حماية الوطن من الفوضى. أما “المستبد المتنوّر”، فهو النسخة الراقية من الكذبة ذاتها، فهو متسلّطٌ أنيق، يقتبس من كتب الفلاسفة ويضع نظاراتٍ سميكة ليبدو مفكرًا، بينما لا يحتمل رأيًا مخالفًا واحدًا. كلاهما قناعٌ واحد لوجهٍ واحد، وهو القهر.
لقد تحوّل هذا الخطاب إلى دينٍ جديد تتلوه النخبة في كل مناسبة. كل الأنظمة تُقدّم نفسها باعتبارها “ضرورة تاريخية”، والنخبة تُصفّق بحماسة وتكرّر أن “النظام وحده القادر على حماية البلاد”. وفي سوريا مثلاً، من كان بالأمس يكتب عن الحرية والكرامة صار اليوم يتغنى بالحكمة والواقعية السياسية. ومن كان يهاجم الاستبداد بالرأي وبالقرار، صار ينظّر له بحجة ما يعتبر بأنه حساسية المرحلة الانتقالية. لا أحد يريد أن يفقد مقعده، أو امتيازاته. إن نفاق النخبة لم يعد مجرّد سلوكٍ فردي، بل أصبح جزءًا من بنية النظام نفسه. فالنظام يعيش على الأكاذيب التي ينسجها له مثقفو البلاط. الإعلامي الذي يُسمّي الفشل “صمودًا”، والكاتب الذي يُحوّل الخراب إلى “إصلاحٍ تدريجي”، والأستاذ الجامعي الذي يُدرّس لطلابه أن الحاكم “أدرى بالمصلحة العامة”. جميعهم شركاء في جريمة تزوير الوعي. هم الوجه الثقافي للاستبداد، مكلفون بتجميل القبح وتطبيع الخضوع.
ما يزيد المشهد مرارة أن هذا النفاق لم يعد بدافع الخوف والبحث عن المنفعة فحسب، بل صار قناعةً راسخة. بعض المثقفين باتوا مقتنعين فعلاً أن الشعوب العربية “غير جاهزة للديموقراطية”، وأن “اليد القوية” هي الحل. يتحدثون وكأنّ الاستبداد قدرٌ طبيعي، وكأن الحرية مغامرة غير مسؤولة. يبرّرون القمع باسم العقلانية، بينما ما يفعلونه في الحقيقة ليس سوى إدارة الخوف بلغةٍ ناعمة. والحقّ أن الاستبداد لا يُعلّم الناس النظام كما يزعمون، بل يعلّمهم الانكسار. لا يُنقص الفساد، بل يُخصّخصهُ. لا يخلق الاعتدال، بل يزرع التردّد. لا يقلّل الجرائم، بل يخفيها. إنه يطفئ النور ثم يُقنع الناس بأنّ العتمة هي راحة للعين. كلّ حديثٍ عن مستبدٍّ عادل أو متنوّر ليس سوى تبريرٍ فلسفي لجبنٍ سياسيٍّ وأخلاقيٍّ عميق هذا النوع من الخطاب لا يُقنع أحداً، لكنه يرضي الحاكم، وذلك يكفي عند من باعوا ضمائرهم بثمن المناصب.
اللافت أن بعض النخب لم تعد تبرّر الاستبداد فقط، بل تمجّده صراحةً. تسمع أحدهم يقول، “نعم، نحتاج إلى قبضةٍ قوية”، وكأنه يتحدث عن علاجٍ طبيّ لا عن قهرٍ سياسي. وآخر يفاخر بـ “تنوّر الحاكم” لأنه سمح بعرضٍ فني أو ندوة. هؤلاء لا يخدعون أحدًا سواهم. فكلّ ما يفعلونه هو إقناع أنفسهم بأنّهم ما زالوا فاعلين في المشهد، بينما هم في الحقيقة مجرّد ديكور في مسرحٍ بائس.
إن أخطر ما في الاستبداد ليس وجود الحاكم المستبد، بل وجود من يُقنع الناس بأنه ضرورة. فالحاكم وحده لا يستطيع أن يخنق أمة كاملة، ما لم يجد من يحمل له الأوكسجين. والنخب العربية، في معظمها، كانت دائماً هذا الأوكسجين المسموم: تنظّر، وتبرّر، وتخدّر. وعندما ينهار كل شيء، تخرج لتقول ببراءة، “لقد حاولنا الإصلاح من الداخل”. لكن الإصلاح من الداخل في أنظمة كهذه يشبه محاولة تنظيف البحر من الداخل أيضًا، وهو عبثٌ أخلاقي قبل أن يكون سياسيًا. لا يمكن أن يُبنى العدل على الخوف، ولا يمكن أن يُثمر التنوير في أرضٍ محروثة بالقمع. من يؤمن بالمستبد العادل كمن يؤمن بالمجرم الرحيم. تناقض لغويٌّ وأخلاقيٌّ لا يصمد أمام أبسط امتحانٍ للضمير.
الحقيقة البسيطة التي يرفض كثيرون الاعتراف بها هي أن لا استقرار بلا حرية، ولا كرامة مع الخضوع. النخبة التي تفضّل المصلحة على المبدأ، وتظنّ أن الكلمة الصادقة خطر على الوطن، إنما تزرع بذور الفناء الذي تدّعي أنها تحاربه. فالأمم لا تموت بالقصف فقط، بل تموت حين يصمت مثقفوها أو يصفّقون للظالم باسم “العقلانية”. المأساة التي تواجه البلاد والعباد، بمن فيهم أصحاب سلطة جديدة، تكمن في وجود طوابير من المثقفين يبرّرون للحاكم الحالي، كما كانوا يفعلون للحاكم السابق، كلّ شيء باسم الحكمة والمصلحة الوطنية. هؤلاء أخطر من الحاكم نفسه، لأنهم يمنحون القمع شرعية فكرية ويحوّلون الخوف إلى “فضيلة وطنية”.
آن الأوان لإسقاط هذه الأقنعة اللامعة، فلا يوجد مستبدّ عادل، ولا متنور، ولا مخلّص أوحد. يوجد فقط حاكم يكره الحرية ونخبة تخاف منها. وما لم تتحرّر العقول قبل الأنظمة، سيبقى الطغيان يجد ألف شاعرٍ يمدحه، وألف مثقفٍ يبرّره، وألف أكاديميٍّ يفسّره نظريًا. أمّا التغيير الحقيقي، فلن يبدأ إلا حين يستعيد الفكر شجاعته، ويعود القلم إلى مهمته الأولى، وهي قول الحقيقة، لا تلميع الكذب.
*نشرت على موقع المدن بتاريخ 13 تشرين الاول 2025
