صحف وآراء

روسيا اللغز: ليست إمبراطورية، وإنما دولة إمبريالية دائماً 1/ 2

 المؤلف:  جنكيز تشاندار / ترجمة: أنيس محسن

هل استعادت روسيا مكانة الاتحاد السوفياتي الدولية؟ سؤال بات يُطرح كثيراً منذ أن بدأت موسكو في عهد فلاديمير بوتين تتوسع في مناطق كانت متحالفة مع هذه الدولة الشيوعية الكبرى في زمن الحرب الباردة، وفي أُخرى كانت تقع تحت تأثيرها، بل إن موسكو تسعى حتى للتوسع في مناطق حليفة للغرب عامة، والولايات المتحدة خاصة، مع بوادر انسحاب أميركي من تعقيدات الشرق الأوسط. لكن هل يمكن لدولة باتت تفتقر إلى كثير من المقومات، أن تستعيد مكانتها كإمبراطورية جديدة متوالدة من إمبراطورية آفلة؟

إن التفكير في روسيا باعتبارها لغزاً، وفتح باب النقاش على مثل هذا الوصف، هما محاولة محفوفة بالمخاطر تجذب ملاحظات ساخرة من الخبراء الذين يهتمون بالشأن الروسي، وبين هؤلاء ليزلي تشامبرلين التي رأت أن اعتبار “روسيا لغزاً” هي عادة غربية كسولة، فقد كتبت في أسبوعية Times Literary Supplement (TLS) ما يلي:

إن سؤال الغرب عمّا يدور في ذهن فلاديمير بوتين، ليس سوى عادة غربية كسولة تتحدث عن روسيا كأنها “أحجية مغلفة بغموض، في داخل لغز.” إلّا إن الطموح الروسي الحالي يبدو أنه ينبع من إمبريالية محافظة عميقة، لا تتسم بفردية الزعيم الذي يتولى القيادة، ولا بالغموض بصورة خاصة. فنحن نعلم أن القوة التي تحكم روسيا هي التقاليد، وقد تجلّى ذلك في ثلاثة اضطرابات كبيرة على مدى القرنين والربع الماضيين: الأول كان الثورة الفرنسية التي لا تزال تثير الخوف في سانت بطرسبرغ بعد خمسين عاماً؛ الثاني هو الإطاحة بالقيصر في سنة 1917؛ الثالث هو انهيار الاتحاد السوفياتي في سنة 1991. وفي كل حالة، أدى وضع ثوري أو تهديد، في نهاية المطاف، إلى ردة فعل قومية.

ومع ذلك، فإن هذا الأمر لا يتعلق بالغربيين وحدهم، بل بأي شخص في العالم حريص على متابعة التطورات في السياسة الدولية، ويرى أن نشاط روسيا يُذكّر بما كان عليه شأن الاتحاد السوفياتي حين وجد نفسه في وضع أنه مضطر إلى تحرّي مسألة روسيا باعتبارها لغزاً. فالباحثون الروس أنفسهم قدّموا مواداً كافية نسبياً عن مسألة “روسيا اللغز” أو “روسيا الغامضة”، كأنهم يبررون جهود أولئك الذين يحاولون فهم آليات وديناميات روسيا المعاصرة.

وربما أفضل توضيح لماهية “روسيا اللغز” أو “روسيا الغامضة”، هو التفسير الذي قدمه ديميتري ترينين، الباحث الروسي المحترم، في كتابه “روسيا” والذي جاء على النحو التالي: “كما يقولون في روسيا، كل شيء يتغير في 20 عاماً، ولا شيء في 200 عام”. وترينين في الكتاب نفسه، يعبّر عن هذا الأمر باللغة الفرنسية أيضاً، فيقول: “من المفارقات، أنه ‘كلما تغيرت الأشياء، بقيت على حالها’ (plus ça change, plus c’est la même chose)”. إنه وصف يعبّر عن روسيا في الماضي وفي الحاضر، وإلى الأبد.

إن “لغز روسيا” هذا ينغرس في أذهان الناس في جميع أنحاء العالم، ولدى المتأثرين بالنشاط الروسي في الأراضي الشاسعة التي تغطي تقريباً القارة الأوراسية كافة. وبالموازاة، فإن الروس أنفسهم يشككون في مثل هذا الأمر:

لدى الروس موقف متناقض تجاه مكانة البلد في العالم وبين الشعوب الأُخرى: هل روسيا جزء من أوروبا أم إنها منفصلة عنها؟ وإذا كانت أوراسية، فماذا يعني هذا بالضبط؟ وهل هي قوة كبيرة على قدم المساواة مع القوى الأكبر في العالم، أم إنها ببساطة بلد كبير ومتخلف إلى حد ما، لكن لديه طموحات غريبة؟ المشكلة هي أنه لا توجد إجابة محددة وواضحة على أي من تلك الأسئلة. فروسيا أوروبية، لكنها ليست جزءاً من أوروبا، وبغضّ النظر، فإنها جزء من العالم.

إن جغرافيا روسيا وحجمها الهائل (11 منطقة زمنية) هما نعمة ولعنة، الأمر الذي يجعل التمييز بين “أوروبا” و”آسيا” فيها غير واضح. وبالتالي، فإن تحديد ديغول الشهير لأوروبا على أنها تمتد “من الأطلسي إلى الأورال”، لم يكن منطقياً قط في روسيا التي، ومن أجل البقاء في لعبة القوة، كان لزاماً عليها أن تتفوق دائماً على وزنها الحقيقي. وروايتها الاستثنائية تشير إلى ذلك: فمن روما الأرثوذكسية الثالثة، إلى الأممية الشيوعية الثالثة، كانت العقيدة الدينية، أو ما يعادلها علمانياً، محوريتَين بالنسبة إليها.

وبصورة أساسية، ربما يشرح تاريخ البلد وجغرافيته “لغز روسيا”، فهي الدولة الوحيدة في العالم التي فقدت وضعها الإمبراطوري مرتين في غضون قرن واحد. ففي القرن العشرين، انهارت الإمبراطورية القيصرية في عهد آل رومانوف بفعل الثورة البلشفية في سنة 1917، لكن حلّت مكانها إمبراطورية أُخرى هي الاتحاد السوفياتي التي كانت روسيا في قلبها. ومجدداً في سنة 1991، تفكك الاتحاد السوفياتي، ثم اجتمعت 14 دولة مستقلة مع روسيا (الاتحادية التي تضم 15 جمهورية)، لتولد مجموعة تخرج من رحم الاتحاد السوفياتي، وتُعرف باسم رابطة الدول المستقلة: 5 دول في آسيا الوسطى (كازاخستان؛ قرقيزستان؛ طاجيكستان؛ أوزباكستان؛ تركمانستان)، و3 دول في جنوب القوقاز (أذربيجان؛ أرمينيا؛ جورجيا)، و3 في الغرب وجنوب موسكو (أوكرانيا؛ بيلاروسيا؛ مولدافيا)، و3 في البلطيق (إستونيا؛ لاتفيا؛ ليتوانيا).

بتفكك الاتحاد السوفياتي، والذي وصفه زعيم روسيا غير المتنازع عليه فلاديمير بوتين بأنه “أعظم كارثة جيوسياسية في القرن العشرين”، فقدت موسكو مليونَي ميل مربع من الأرضي السيادية. إنها مساحة أكبر من مساحة الاتحاد الأوروبي كله، والتي تبلغ 1,7 مليون ميل مربع، أو الهند – ثاني أكبر دولة في عدد السكان – التي تبلغ مساحتها 1,3 مليون ميل مربع، والتي توازي تقريباً كامل مساحة شبه القارة الآسيوية.

وعلى الرغم من تلك الخسائر الهائلة التي لحقت بالأراضي، والانكماش الذي يمكن بسهولة إدراك أنه يضع حداً للوضع الإمبراطوري الفعلي، فإن روسيا لا تزال تُعتبر أكبر بلد في العالم. وفي الواقع، فإن وضع روسيا كدولة إمبريالية لن يتغير أبداً، أياً تكن التغيرات الإقليمية التي قد تحدث. لقد سُئل مرة ثيودور شانين، عالم الاجتماع المشهور والخبير المختص بالشأن الروسي، إلى كم من الوقت تحتاج عملية “تفكك الاستعمار” الروسي، كي تصبح روسيا أمّة طبيعية؟، فأجاب: “الحقيقة هي أنه عندما تندثر إمبراطورية ما، ربما يكون من الأفضل أن تحل مكانها واحدة جديدة.” واقتباساً من شانين، وصف المؤرخ اللامع إيغور تورباكوف واقع روسيا استناداً إلى جغرافيتها الخاصة، على النحو التالي: إن ضم روسيا شبه جزيرة القرم، ودورها في إثارة الحرب في المقاطعات الشرقية الأوكرانية، ومشاركتها العسكرية في الصراع السوري أمور كلها تدفع المرء إلى التفكير في طبيعة سلوك روسيا الأخير، وفي روسيا ذاتها.

أين تبدأ روسيا كدولة وأمّة، وأين تنتهي؟

إن العديد من دارسي الماضي يتفقون على أن الإمبراطورية كدولة إنما تتسم بحدود غير مستقرة ومنقولة – وهي السمة المستمدة من النظرة الإمبراطورية المثالية إلى العالمية. بل إن بعض الباحثين قد يزعم أن الإمبراطوريات الفتية النشطة لم ترسم حدودها بوضوح قط؛ إذ عندما يتم تثبيتها بشكل صحيح، فإنها إشارة إلى أن تلك الإمبراطورية تكون في أعوامها الأخيرة. لقد كانت روسيا في مظاهرها التاريخية كلها إمبراطورية إلى ما يقرب من نصف ألفية (500 عام). و”حقيقة أن الإمبراطورية (قبل سنة 1917) كانت كتلة أرضية واحدة من دون حدود دستورية أو إقليمية واضحة بين الشعوب، جعلت صعباً بشكل كبير تحديد مَن هم الروس، أو ماذا يعني كونهم روس.”

تقييم تورباكوف هذا يمكن اعتماده كوصف للسمات اللغزية لروسيا. واستطراداً على ملاحظته المثيرة تلك، يستشهد تورباكوف بعالم الاجتماع الروسي الرائد فيليبوف فيما يتعلق بالطابع الإمبراطوري المستمر للاتحاد الروسي الحالي الذي ورث الاتحاد السوفياتي البائد، فيقول:

من الطبيعي أن يجادل عالم الاجتماع الرائد في روسيا ألكسندر فيليبوف، بأن الاتحاد الروسي “باعتباره الجزء الأكبر من الإمبراطورية السوفياتية التي انهارت قبل أقل من ربع قرن، قد ورث واحدة من أهم سمات التنظيم الإمبراطوري للحيّز: الطبيعة غير المؤكدة، ودينامية الحدود.”

وبذلك، يكون تورباكوف قد صاغ مفهوم “مجال الهوية” في روسيا من خلال الإشارة إلى روسيا ليس فقط كأكبر دولة في العالم، بل لكونها “على حدود عدة دول أكثر من أي دولة أُخرى في العالم.” وفي هذا السياق كتب: أغلبية هذه الدول المجاورة (لروسيا) هي أراضٍ حدودية إمبراطورية سابقة، ومعظم الحدود هو حدود إدارية داخلية سابقة تعود إلى الحقبة السوفياتية، والتي لم يتم تعيينها وترسيمها بشكل جيد. وبناء عليه، ليس من المفاجأة بمكان أن يميز مخططو الكرملين الاستراتيجيون بين حدود الدولة الرسمية للاتحاد الروسي وبين ما يعتبرونه حدوداً استراتيجية لروسيا، والتي تحددها إلى حد كبير المصالح الأمنية والاقتصادية. فهذه الأخيرة أكثر توسعاً من الأولى بكثير، وتميل إلى أن تتوازى مع حدود الاتحاد السوفياتي السابق. ويتجلى هذا التمييز في وجود الحدود الجمركية والأمنية لروسيا التي، بحكم القانون، لا تمتد فقط على طول حدود روسيا. ثم هناك مسألة أكثر صعوبة تتعلق بكيفية ارتباط حدود الدولة الروسية الرسمية بما يمكن أن يطلَق عليه اسم “مجال هوية روسيا”.

إن “مجال هوية روسيا”، هو أداة مفهومية يمكن أن تُستخدم كأداة لتفسير “لغز روسيا” الذي تحدث عنه أيضاً مؤرخ لامع آخر من أصل روسي، هو ستيفان كوتكين، كالتالي: “كان لدى الروس دائماً إحساس راسخ بالعيش في بلد حضاري يتمتع بمهمة خاصة، وهو رأي يعود في جذوره إلى بيزنطة التي تزعم روسيا أنها وريثة لها”.

ويشرح كوتكين، في مقالة في مجلة “فورين أفيرز” (Foreign Affairs) في أيار / مايو 2016، بعنوان “روسيا والجغرافيا السياسية الدائمة”، الاستثنائية التي تعتمدها القوى العظمى، ويقول:

الحقيقة هي أن أغلبية القوى العظمى أظهرت مشاعر مماثلة. فقد زعمت كل من الصين والولايات المتحدة وجود استثناءات ذات ولاية سامية، مثلما فعلت إنجلترا وفرنسا طوال أعوام كثيرة من تاريخهما. وكان لألمانيا واليابان انفجار للاستثنائية لديهما. أمّا روسيا فتتمتع بمرونة ملحوظة جرى التعبير عنها بشكل مختلف بمرور الوقت: روما الثالثة، والمملكة السلافية، والمقر العالمي لمنظمة الشيوعيين الدولية.

يتطرق كوتكين في المقالة نفسها إلى الطبيعة الخاصة للجغرافيا الروسية التي كثيراً ما كان لها أثر حاسم في سياستها الخارجية، ويقول: ومن العوامل الأُخرى التي شكلت دور روسيا في العالم، الجغرافيا الفريدة التي تتمتع بها. فهي لا حدود طبيعية لها، باستثناء المحيط الهادىء والمحيط المتجمد الشمالي (الذي أصبح الآن حيزاً متنازعاً عليه أيضاً). لقد شعرت روسيا طوال تاريخها، خلال التطورات المضطربة في كثير من الأحيان في شرق آسيا وأوروبا والشرق الأوسط، بأنها عرضة للخطر على نحو دائم، وكثيراً ما أظهرت نوعاً من العدوانية الدفاعية. ومهما تكن الأسباب الأصلية وراء التوسع الروسي المبكر – والذي كان قسم كبير منه غير مخطط له – فإن العديد من الطبقة السياسية في البلد أصبح يعتقد بمرور الوقت، أن مزيداً من التوسع فقط قادر على تأمين عمليات الاحتياز (من حيّز) التي كانت تتم سابقاً. وهكذا، كان الأمن الروسي يعتمد بشكل تقليدي على الانتقال إلى الخارج، بذريعة الهجوم الخارجي المسبق…

إن تاريخ روسيا الذي شكلته الجغرافيا الواسعة والممتدة من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادىء، يوفر أدوات جدل كافية لفهم سبب النَّفَس الإمبراطوري في رؤيتها إلى الأمن القومي وتحديد سياستها الخارجية، والذي كان لديها وسيبقى لديها دائماً. فعلاوة على الجغرافيا السياسية الفريدة، فإن مفهوم امتلاك مهمة خاصة، لا يجعلها تشعر بأنها فقط دولة قومية في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفياتي، بل إنها ستؤكد نفسها دائما كقوة عالمية في السياسة الدولية أيضاً. وهذا المنطق يضيف مزيداً إلى كونها لغزاً، لأنه فضلاً عن فقدان الأراضي، ومع أنها لا تزال أكبر بلد في العالم، فإنها اختبرت انخفاضاً في الدينامية الاقتصادية ورأس المال البشري، وهما أمران أساسيان لتحوز مركز قوة عظمى.

دلالة على ما سبق، يكفي النظر إلى حجم اقتصاد روسيا الذي يبلغ من حيث القيمة الدولارية 1,5% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وبالتالي يساوي 1 / 15 فقط من حجم اقتصاد الولايات المتحدة. كما أن الناتج المحلي الإجمالي في روسيا هو أكبر قليلاً من الناتج المحلي الإجمالي في أسبانيا (وهي الدولة التي يقلّ عدد سكانها عن ثلث عدد سكان روسيا)، وأصغر كثيراً منه في إيطاليا (التي يبلغ عدد سكانها 60 مليون نسمة تقريباً، في حين يبلغ عدد سكان روسيا 145 مليون نسمة). والأهم من ذلك، أن ميزانية روسيا العسكرية أقل من عُشر ميزانية الولايات المتحدة، وخُمس ميزانية الصين، وأصغر من ميزانية اليابان.

*نقلاً عن  مقالة خاصة بـ ”مجلة الدراسات الفلسطينية نشرت في العدد 127 – صيف 2021  والكاتب هو صحافي وكاتب تركي.” وعنوان المقالة الأصلي هو : “Russia, The Enigma: No more an Empire, Always Imperial”.

…يتبع حلقة ثانية وأخيرة.

Leave a Comment