صحف وآراء

حالة الحرمان اللبنانية… وكم نستطيع الصمود؟

فادي نقولا نصّار

لم يعد لبنان كما عهدناه. ثلاثةُ أعوام مرّت على بدايةِ أزمةٍ مُستفحِلة أحدثت تغييرًا جذريًا في نسيج البلد الاجتماعي والاقتصادي. فــمتعة العيش التي لطالما تميَّزَ بها لبنان، تلاشت الآن، ليحلّ محلّها انعدام الأمل والتشاؤم واليأس. وأصبحَ الحرمان هو الوضع الطبيعي الجديد الذي يفوقُ طاقتنا على الاحتمال ويؤثّر في كلّ جانب من جوانب حياتنا.

حُرِمَ المودعون من جنى عمرهم، وحُرِمَ المتقاعدون من معاشاتهم التي تكفل لهم حياةً كريمة، وحُرِمَ الشباب من فُرَص العمل اللائقة، وحُرِمَ الأطفال من حقوقهم الأساسية. وأصبحَ الحصول على الخدمات والسلع الأساسية، بما فيها الطعام والرعاية الصحّية والتعليم والمياه النظيفة، نوعًا من أنواع الرفاه، بسبب الارتفاع الهائل في الأسعار وتدهور القدرة الشرائية. وفي الوقت نفسه، باتَ التوفير المنتظم للخدمات الأساسية، مثل الكهرباء والمياه النظيفة، أمراً غير مألوف – وهو الاستثناء الذي يؤكّد قاعدة الحرمان.

منذ اندلاع الأزمة في لبنان، أجريت العديد من الأبحاث بغرض قياس مدى تأثير هذا الحرمان المتعدّد الجوانب على حالة الفقر ومستويات المعيشة في البلد. وعلى الرغم من أنَّ لبنان لطالما واجهَ إشكاليات عدّة في جمع البيانات، ولا سيّما في ظلّ غياب الإحصاء السكّاني، إلّا أنَّ التداعيات المتسارعة لهذه الأزمة شكَّلَت تحدّياً كبيراً لمثل هذا النوع من الدراسات. ففي ظل سياق عام يكتنفه الغموض، تتفاقم الصعوبات ليس على صعيد تجميع البيانات الحسّاسة ورصدها فحسب، بل يؤثّر ذلك أيضاً على حُسن توقيت البيانات المجمَّعة التي تصبح أحياناً مختلفة عن الواقع الفعلي بمرور بضعة شهور، أو حتّى أسابيع نتيجة الصدمات الحادّة، مثل أزمات المحروقات، أو التقلّبات المفاجئة في قيمة العملة، بالإضافة إلى التدهور المتسارع في الأوضاع العامّة، التي تقوّض القيمة التمثيلية لتلك البيانات ودقّتها.

ولكنَّ ذلك لا ينفي الاتّجاهات المُقلِقَة التي أشارت إليها التقارير الصادرة عن منظّمات دولية مثل اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا)، والبنك الدولي، ومنظّمة الأمم المتّحدة للطفولة (اليونيسف)، والمقرّر الخاصّ التابع للأمم المتّحدة والمعني بمسألة الفقر المدقع وحقوق الإنسان، والتي لا ينبغي قراءتها بمعزلٍ عن بعضها.

تختلف هذه الدراسات عن بعضها من حيث منهجياتها ونطاقها، وبالتالي تختلف النتائج والأرقام التي تُقدّمها لقياس الفقر في البلد. ويؤدّي هذا الاختلاف والالتباس غير المقصود في مفهوم الفقر إلى تسليط الضوء على ضرورة تحسين التنسيق بين جهود البحث، وتجميع الموارد، وإنشاء

مؤشّر مشترك لتتبُّع الفقر والحرمان في لبنان، ورصدهما وتقييمهما. ومن الأمور الهامّة التي تُتيح تحقيق هذا الهدف، تبرز ضرورة تفادي التركيز الحصري على مشاركة البيانات مع السلطات الحكومية، والانفتاح على منظّمات المجتمع المدني من أجل تعزيز جهودها، بدلاً من اعتماد موقف غير عادل حيال هذه المنظّمات والتوقُّع منها أن تُعوّض عن عجز الدولة في إدارة البلد.

غير أنَّ قراءة هذه التقارير مجتمعةً تُشير إلى أنماط واضحة في حجم الفقر وطابعه في لبنان، ما قد يُشكِّل أساساً لتحديد مؤشّر موحّد للفقر.

بدايةً، الفقر متعدّد الأبعاد ولا يقتصر على الحرمان في المدخول. ومع أنَّ المدخول يبقى وسيلةً مهمّة تُتيح للأفراد الحفاظ على أمنهم البشري، فهو لا يعكس وحده بشكل دقيق مقدار التمتُّع بالحقوق الأساسية، مثل المسكن المناسب، أو الخدمات الأساسية، أو الرعاية الصحّية، أو التعليم. في الواقع، يمكن استكمال المقاربة المتعدّدة الأبعاد التي تُركِّز على هذه الحقوق الأساسية من خلال قياس درجة الحرمان منها ومستوى الفقر المتأتي عنها.

ترسم الدراسات التي أجرتها كلٌّ من الإسكوا واليونيسف والبنك الدولي، صورةً مشابهة: ثغرات في البنى التحتية والخدمات العامّة – مثل الحصول على الكهرباء والمياه النظيفة – تؤدي إلى حرمانٍ جَمَاعي من هذه الحقوق الأساسية. بعبارة أخرى، مع أنَّ السكّان في لبنان ليسوا على المستوى نفسه من الحرمان، إلّا أنَّهم محرومون جميعاً من هذه الخدمات الأساسية في حياتهم اليومية. ومع أنَّ التراجُع الكبير في القدرة الشرائية أدّى إلى تكثيف الجهود في السعي لتأمين الخدمات الحيوية، مثل التعليم والرعاية الصحّية، فإنَّ هذه المؤسّسات تحديداً تشهد انهيارات نتيجة الضغوط المتزايدة عليها إثر الأزمة المستمرّة، وغدت تدريجياً عاجزة عن توفير الخدمات بالنوعية المطلوبة. وليست المستشفيات بمنأى عن الانقطاع المتكرّر في التيّار الكهربائي، بالإضافة إلى أنّها تُعاني من الخسارة الهائلة في عدد الممرّضين والممرّضات والأطبّاء والموظّفين الأساسيين والنقص في اللوازم الطبّية الأساسية. أمّا الأساتذة، ولا سيّما أساتذة المدارس الرسمية، فيتقاضون رواتب متدنّية جداً ويعملون فوق طاقتهم، وأحياناً تكون كلفة النقل إلى المدارس أعلى من قيمة رواتبهم.

فالصفة التي جرت العادة على تسميتها بـ”القدرة على الصمود ” قد تحوَّلَت الآن إلى مجرّد قدرة الأفراد والعائلات على سد هذه الثغرات عن طريق الاعتماد على مصادر دعم خارجية، مثل مولّدات الكهرباء الخاصّة وصهاريج المياه الخاصة، والحوالات المالية من الخارج، أو السفر من أجل الرعاية الصحية المنقذة للحياة.

إنَّ طرق التأقلم غير الفعّالة مع هذه الأزمة الخانقة ليست غير مستدامة فحسب، خصوصاً في ظلّ البنية التحتية المتداعية، بل تُعزِّز ظاهرة اللامساواة أيضاً. فالفئات الأكثر تضرُّراً من الأزمة

عاجزة بشكل عام عن توفير إمدادات الدعم الخارجية هذه، ممّا يزيد من حرمانها، ولا يترك لها خيار سوى بيع أثاث المنزل ولوازمه، أو البحث بيأس عن ملاذ آمن خارج البلد. وتتّخذ الأزمة في لبنان طابعاً جندرياً إلى حدّ كبير. فقد كشفَ تقييمٌ سابق حول النوع الاجتماعي، صادر عن البنك الدولي وهيئة الأمم المتّحدة للمرأة، أنَّ غالبية النساء في لبنان عاطلات عن العمل، حيث إنَّ 75 في المئة من النساء غير ناشطات اقتصادياً. وتُدفَع النساء بشكلٍ متزايد نحو الاقتصاد غير الرسمي، ضمنَ سياقٍ تتزايد فيه حالات العنف وإساءة المعاملة، وتغيب فيه آليات الحماية الهيكلية للنساء.

وتنعكس التداعيات السلبية للأزمة بشكلٍ ملحوظ على الأشخاص الذين يُعانون من أوضاع هشّة، مثل الأشخاص ذوي الإعاقات، نتيجة غياب آليات الحماية الاجتماعية الشاملة التي يحتاجون إليها لتمكينهم في سياقٍ محفوف بالتقلّبات والتحدّيات. وحتّى قبل الأزمة، كان ثلثا الأشخاص ذوي الإعاقات ضمن الفئة السكّانية التي تتقاضى أدنى المداخيل.

في هذه المرحلة، الفقر في لبنان ليس خفيّاً، بل مُهمَلاً. وتُشكّل آليات الحماية الاجتماعية الشاملة أطواقَ النجاة لحماية حقوق الفئات التي تُواجه تحدّيات هيكلية غير متناسبة، والتي تزداد هشاشةً بشكلٍ خاصّ في فترات الأزمات. وعلى الرغم من ذلك، وبعد مرور ثلاثة أعوام على بداية الأزمة، لا يزالَ الأشخاص ذوو الإعاقات، وغيرهم من الفئات الهشّة، بما في ذلك الكبار في السنّ، والنساء والرجال الذين يُعيلون أطفالهم، أو أفراد العائلة المُعالون، والأطفال، والشباب، في دوّامة الإهمال. يعجز سكّان البلد، أفراداً وعائلات، عن التكيُّف للتعويض عن تقصير الدولة في تحمّل مسؤولياتها – فعلى الدولة أن تُعطي الأولوية بصورة عاجلة لترميم الخدمات العامّة الأساسية من أجل تأمين التعليم والرعاية الصحّية والمرافق العامّة وغيرها من الحقوق. إنَّها بالفعل دولةٌ فاشلة استحقّت لقبها. ساعدَ المقرّر الخاصّ التابع للأمم المتّحدة والمعني بمسألة الفقر المدقع وحقوق الإنسان في تحديد إطار الفقر ضمن هذا المنظور الأوسع لحقوق الإنسان. بمعنى آخر، الفقر في لبنان هو وليد الحرمان من حقوق الإنسان الأساسية، مثل الحقّ في التعليم، والحقّ في الحصول على مسكن مناسب، والحقّ في مياه نظيفة، والحقّ في الرعاية الصحّية –أي الحقّ في العيش بكرامة. والدولة بدورها هي المسؤولة عن الحفاظ على هذه الحقوق.

الفقر مسألةٌ مرتبطة بحقوق الإنسان، وبقدر ما يتعلّق بالحرمان من هذه الحقوق، فهو أيضاً مؤشّرٌ يدلّ على مدى تلبية هذه الحقوق لناحية مستويات المعيشة في البلد. لم يعد لبنان كما عهدناه. ففي ظلّ حالة الحرمان واللامساواة واليأس، تغيَّرَت مستويات المعيشة بشكلٍ جذري، وخلّفت تداعيات من الصعب معالجتها. الفقر يُحيط بنا في كلِّ مكان، واللامساواة هي الملاذ الوحيد منه.

وللمضي قدماً، هناك حاجة واضحة لخبراء الاقتصاد والمنظمات التي تجري الأبحاث حول الفقر من أجل تجميع مواردهم وتنسيق رصدهم للفقر. من الضروري العمل لتحقيق مثل هذا الهدف، والابتعاد عن التركيز حصريًا على إيصال تلك البيانات إلى سلطات الدولة، من خلال توسيع نشاطاتهم نحو منظمات المجتمع المدني وإيصال المعلومات لهم بهدف تمكينهم من المناصرة ، بدلاً من التوقع غير العادل لها لسد الثغرات في القيادة التي خلفتها الدولة.

غير أنَّ كلّ ذلك لا يُجيب على السؤال الفعليّ – ماذا بعد الآن؟ في غياب الدولة الفعّالة، إلى متى نستطيع الصمود في ظلّ حالة الحرمان هذه؟

*فادي نقولا نصّار باحث في المركز اللبناني للدراسات LCPS وأستاذ مساعد في العلوم السياسية والشؤون الدولية ومدير معهد العدالة الاجتماعية وحل النزاعات في الجامعة اللبنانية الأمريكية (LAU).

نشرت في تشرين الاول 2022 المركز اللبناني للدراسات LCPS وجرى تعديل توضيحي للعنوان ( المحرر)

Leave a Comment