ثقافة

بين الدولة المدنية والدولة العَلمانية

جعفر المظفر*      

قبل أن تتصاعد شكيمة الإسلام السياسي كان إستعمال كلمة (العَلمانية) يجري دون أي فيتو أو أي إعتراض ذا شأن، بل كاد يكون هناك إتفاق عليها، وخاصة بعد خروج العراق وعموم المنطقة العربية من هيمنة الدولة العثمانية التي كانت تحكم بإسم الخلافة، وهي هيمنة كاد يكون الكفر إزاء تجربتها المُرة نوعاً من الإيمان.
وبسبب الجهل وتراجع الوعي السياسي وتدني المعرفة فقد تعاملنا مع انظمتنا السياسية التي نشأت بعد إنهيار الدولة العثمانية، وكأنها انظمة عَلمانية حقيقية دون أن ندرك الفرق بينها وبين أنواعٍ اخرى مثل (الدولة المدنية).
ولعلنا لم نكن بحاجة إلى الخوض في تفاصيل الإختلافات بين هذا المفهوم أو ذاك ، لأن حاجتنا إلى الإستقلال وإلى بعض من التحضر والتقدم في مجتمعاتنا التي أرهق كاهلها العثمانيون كانت هي الطاغية، بحيث بدت أية حاجة خارج مساحة تلك الضروريات وكأنها نوع من الترف الزائد عن اللزوم، ناهيك عن أن سياقات تطور مجتمعاتنا مقارنة بالمجتمعات الغربية كانت مختلفة إلى حد كبير لذلك كانت الحاجات مختلفة كثيراً، وبالنتيجة كان هناك اختلاف في نوع الثقافات.
على الجانب الآخر كانت المجتمعات الأوروبية قد مرت بعلاقات تناقضية مع رجالات الدين بحيث كان مولد العلمانية، أنظمة ومجتمعات وثقافة، نتيجةً موضوعية متلازمة مع طبيعة تلك الصراعات ومع قواها. ولقد جرى إشتقاق التسميات وفي مقدمتها مفردة (العَلمانية) برفقة تلك الصراعات التي كانت غائبة عن مجتمعاتنا.
تاريخياً كان الدين وراء النشوء القومي العربي الذي تأسست عليه دول عربية كبرى كالعباسية والأموية، حتى إذا ما خرجت تلك المجتمعات من تجربتها المُرة مع العثمانيين فقد وجدت نفسها منشغلة بالبحث عن لقمة الخبز قبل التلفون، وإلى تعلم الكتابة قبل العزف على البيانو، لذلك ظلت علاقتها بالدين وبرجالاته علاقة عضوية. وحينما نشأ الإسلام السياسي العربي لم تجد المجتمعات العربية نفسها في مواجهاتٍ كتلك التي عاشتها المجتمعات الغربية في مرحلة ظلامها, لذلك عبَرَ الإسلام السياسي دون فيتوات أو عوارض مانعة لعودته، خاصة بعد الفشل الذي رافق تجربة الإنقلابات العسكرية والأنظمة الشمولية (الثورية) التي أخذت حصتها من المشهد السياسي المجتمعي والسلطوي.

وهل كنا مضطرين حينها للبحث عن الفرق في معاني المفردات ؟. أو كنا بحاجة ولو بسيطة لمن يشرح لنا الفرق بين معنى الدولة المدنية والدولة العلمانية ؟ بين الدولة الثيوقراطية والدولة التوليتارية؟ وبينها وبين الدولة العسكرية؟.
إن الحاجة تأتي بثقافتها، كما أن الظروف هي التي تحدد السياقات أما الواقع فهو الذي يتدخل لصياغة الحلول. ولم يكن الإسلام السياسي قد نشأ بعد لكي يقرع لنا جرس الحاجة إلى مفردات من شأنها أن تؤسس للغةٍ واضحة المعاني، وإذا بنا نفيق ونحن نرى تلك القوى وهي تفرض على مجتمعاتنا ثقافتها ولغتها المِعْوجّة والتي كان في مقدمة ما إدّعَته أن (العَلمانية) و(الإلحاد) هما وجهان لعملةٍ واحدة.
ويكفي هذا النوع من الكذب والتدليس والتلاعب والخداع لمعرفة طبيعة هذه القوى التي لا تملك غير التشويه والإلتفاف على الحقائق، فالدول الغربية العَلمانية الديمقراطية لم تسعَ إلى فصل الدين عن المجتمع وإنما إلى فصله عن السياسة، ونحن نرى أن هناك كنيسة في كل ضاحية. وسنعرف بكل سهولة أن ما حدث كان نتيجة لإنتصار قوى التقدم على قوى الكهنوت القمعي وليس على الدين. ولهذا فإن أصحاب الديانات جميعها يحظون بكل الإحترام اللائق، وكذلك يحظى بهذا الإحترام اصحاب الثقافات اللادينية. ودون أدنى شك فإن العلمانية الديمقراطية هي التي أفلحت بوضع حدٍ للصراعات التاريخية المجتمعية الدامية وهي التي أسست لثقافة حقوق الإنسان، ودونها فإن فرص التقدم والتحضر كانت معدومة.
من جانبنا فإننا لم نكن بمنأى عن وضع العربة أمام الحصان، بل كان لكل منا نصيبه في ذلك المشهد المشوه. إن الأنظمة التي أقامها العسكر وأقامتها الأحزاب الشمولية لم تكن نظماً عَلمانية، بل هذا ما كنا إعتقدناه، الأمر الذي سهل لقوى الإسلام السياسي ان تُلقي بعائدية كوارث المراحل السابقة برقبة العَلمانية، وأن تُفلح ببناء ثقافة جلد الذات التي جعلت المواطن مهياً للتراجع وليس للمراجعة.
كنتيجة، راح الكثيرون الذين أرهقتهم تجربة الإسلام السياسي يبحثون عن مفرداتٍ جديدة تقيهم نيرانها، حتى أن بعضهم ظن أن إستعماله لمفردة (المدنية) بديلاً لمفردة (العلمانية) سيسهل عليه العودة إلى إستعمال المفردة الأصلية بعد أن يتم نزع سلاح الدين السياسي.

قطعاً نحن لسنا في وارد خوض حرب المفردات، بل في وارد الحرص على حماية المضامين. ولو أن مفردة الدولة المدنية تتحمل من حيث المضمون حلاً للأزمات والكوارث التي تتأسس نتيجة للإستخدامات السياسية للدين لما صرنا ولو على بعض إختلاف مع استبدال هذه بتلك. لقد صار المقصود بالدولة (المدنية) على وجه الدقة السماح للأحزاب الدينية تحت مسمى الديمقراطية لكي يكون لها نصيبها في العمل السياسي، شانها شأن بقية الأحزاب والحركات السياسية الأخرى. وسيسألونك أليس المقصود بالديمقراطية حق التعبير، أليست هي بالأساس احترام الرأي والرأي الآخر، فلماذا لا يكون للدين السياسي رأيه ومساهماته ايضاً، وبعدها يترك لصناديق الإقتراع تحديد التيار الأفضل لقيادة الدولة والمجتمع؟.

بهذا الشكل يبدو الأمر مبطناً لغاية أن تحقق المؤسسة الدينية وقوى الدين السياسي نقل الصراع من خانة التناقض بين الدولة العلمانية والدولة المدنية لتجعله صراعاً بين الديمقراطية واللاديمقراطية، فأن تختار الديمقراطية معناه أن تختار الدولة المدنية، ويوم لا تفعل ذلك ستكون لا ديمقراطياً، وسييحاولون إقناعك أن الدولة العلمانية التي تضع فيتو على قوى الدين السياسي ستكون بالنتيجة دولةَ ديكتاتورية. وهكذا يعلو صوت التدليس وغايته إقناعك أن الديمقراطية نقيض للعلمانية، ويضربون لك مثلاً على ذلك التجربة النازية الهتلرية والتجربة الفاشستية الموسولنية، عبوراً على تجارب الحكم الشمولية، وفي مقدمتها تجارب العالم الشيوعي قبل إنهياره، وصولاً إلى تجارب الأنظمة العربية الشمولية، أو أنظمة الإنقلابات العسكرية، ليقولوا لك بعدها أن العلمانية ليست كافرة فحسب، وإنما هي معادية للديمقراطية. ولو أنهم كانوا صادقين ولا يجتزئون الحقائق لأعطوا بعض إهتمام لتجارب العالم الغربي وغيره من بلدان العالم، ولأعترفوا أن النظم العلمانية لا تعادي الديمقراطية، وإنما هي تتجدد وتتطور وتتطهر بها. وإن ديمقراطية اليوم تكاد تكون ملتصقة تمام الإلتصاق بتلك النظم، حتى تكاد تحسبها حالة واحدة، وهي حالة لا تقبل القسمة ولا التجزئة، وهكذا هي العلمانية التي ندعو إليها، علمانية ديمقراطية لا تقبل التجزئة او التقسيم، واضحة تمام الوضوح ومعرَّفة أدق التعريف.
إن لعبة الخلط بين المفردات هي في حقيتها لعبة للخلط بين المفاهيم، وعلينا أن نحذر منها، لأن العلمانية في الأصل هي ثقافة استدعتها حاجة الانعتاق من سلطة الكهنوت مهما كان دينه أو جنسيته، وتبدأ أول ما تبدأ من تحريم زج الدين في السياسة ومنع الإستثمار فيه. وما الذي تفعله الدولة المدنية غير أن تمنح الدين السياسي فرصة العودة لإستثمار الدين في السياسة تحت عباءة الديمقراطية، وضمان بقاء كلمة المرجعيات هي الحاسمة، وبقاء المرشد أو الفقيه حاكماً بأمر الله.
قطعاً نحن ضد التمسك بالمفردات، لكننا حتماً ضد اللعب بها، ويوم نفهم أن نظام الحكم الحالي، القائم على المحاصصة الطائفية والمغرق في الفساد والإفساد إلى حد يفوق التصور، هو نظام قائم بالفعل على نظري أن تحمي الدين والسياسة من بعضهما، إضافة إلى كونها الضمانة الأكيدة للحفاظ على وحدة العراق مثلما هي السبيل لتطوره. 

*نشرت في الحوار المتمدن-العدد: 7297 – 2022 / 7 / 2 – 17:18 ضمن محور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني.

Leave a Comment