ثقافة

بول طبر ومارسيل خليفة.. والجمعة العظيمة

كتب الفنان مارسيل خليفة في فايسبوكه ـ السبت 3 نيسان 2021

ليلة “الجمعة العظيمة”يغرينا المكان بالمكوث أطول في لقاء الجمعة. غرفة صغيرة يتوسطها البيانو ويحضنها العود وحضور يطلق سحره المجنون في السماع انتباهنا: پول ورجاء، يوسف وماجدة، رحيم وأم راحة، جميل وسامية، موريس وشكيب، عماد، كاتالينا وامها وهاروت، اميل وعلي وأبو أيمن، اوليا، مريم وآڤا وغبريال. ولا بأس – بين فينة وأخرى – إن ترفع رأسك كي تختلس نظرة للعيون الساهية بغفلة الموسيقى، وفي عميق نفسك تسأل أيهما الباب إلى معرفة ما يجول في خواطرهم. لكنّك لا تجد سوى السماع يغطي الوجوه. يا سائلاً يومه عن غده والقلب في قلبه مرتاب. كم من زمان قد يمر على الزمان كي تُشفى هذه البسيطة ونعبر إلى ضفة أخرى من البحر نعبر. شغف في النفس يسكن. نؤجل الجواب. ونسافر في الموسيقى لتبدو الدنيا امرأة نضجت للوصال ببيتين يدفئان الأفئدة. في آخر اللقاء نندس في القاعة كي نُواري وحشتنا في الجماعة. ما الذي يبقى في العتمة غير رنّة الوتر واحتراف الحنين وعن إدمان الموسيقى لا نتوب. فإلى اللقاء التالي، مع كل الحب!

“عَ دَربْ آلامَكْ” أغنية ترميك إلى ذكرى قديمة: ولداً كنت تلهو بالمكان المطلق ويلهو بك الزمان. وأنت تسهو أو ترنو الى تراتيل الآلام. وكان الذي فيك لا يطيق التصديق أن المسيح يموت على الصليب. لم تكن واقعياً وما رتّل العارفون بوهمك. ويرحل، إلى بعيد الزمان يرحل، إلى قريب المكان يرحل. أيها المسيح – الشهيد، الممهور بنُسك روح يتجلّى لها المطلق: ماذا فعلت بصبيّ خارج من فوهة ترنيمة ؟كانت طفولتي تضج بأسئلة قاضمة. مع أني كنت استمع إلى التراتيل بخشوع هادىء ومستغرق يكاد يساوي ذهول المتعبّد وحميته لموضوع عبادته. وكانت “جدتي” تبتسم وتحيل اسئلتي إلى منطق متداول. وكان عقل الوَلَدْ الذي كنته كلما أكبر، يصغر. (على حد قول ستي) وهكذا تكاثرت الأسئلة وقلّت الأجوبة، واضطربت الامكنة في دواخلنا. وبدأ البحث عن اللا زمان واللا مكان، رغبة في التحرّر والذهاب في الرؤية نحو الحلم الغامض، الذي لا حدود له في تخيّل أبديّ، سرمديّ، عصيّ على الاندثار. وبقي الحنين وحده الى تلك التراتيل والى طفولة الجمعة العظيمة يلازمني ويشد السماع ويجعله يرى ما أبعد من التشخيص الكلامي. وعندما طلبت مني الأخت “مرانا” ابنة الصديق جان سعد أن ألحّن بعض الاغنيات في مسرحية “رفقة” نصوص جورج خبّاز امتثلت برحابة وشفافية لصوت لينا فرح العذب والموجع في غناء: “عَ درب آلامك” وفي موعد على وتر مضمّخ بغياب لا تراه العيون

وكتب الباحث بول طبر في فايسبوكه ـ السبت 3 نيسان 2021

أمس البارحة، تسنى لي، بدعوة من الصديق والفنان مارسال خليفة، أن أحضر سهرة موسيقية تخللها بعض الغناء نظمها ونفذها كل من مرسال وابنه رامي، المؤلف الموسيقي وعازف البيانو الماهر حتى الإنبهار. انقسمت الحفلة البيتية المصغرة إلى قسمين: تخلل القسم الأول معزوفة لباخ بمناسبة “الجمعة العظيمة”، قام بتنفيذها رامي وحيداً على البيانو، إضافة إلى عزفه على البيانو وحيداً أيضاً لعدة مقطوعات موسيقية من تأليفه الخاص. في القسم الثاني، تولى مرسال القيادة، تأليفاً وعزفاً، بمشاركة رامي مرافقاً له وهو يعزف على البيانو. كذلك قام مرسال في هذا القسم، بآداء بعض الأغاني من شعر محمود درويش ووديع سعاده. 

قبل كل شيء، دعوني أصرح بأن علاقتي بالموسيقى هي علاقة حب وتذوق بالأساس. فأنا لست بناقد موسيقي وليس بعازفها، بالطبع. حبي وشغفي بالموسيقى والغناء يعود إلى نشأتي بالعلاقة مع خالي فيليب الذي كان يدرس الموسيقى والعزف على الكمان في المعهد الوطني للموسيقى في لبنان. لا بل أريد أن أصرح بأمر آخر: إختصاصي اللاحق في علم الإجتماع جعلني أغامر أحياناً في تقديم بعض الملاحظات السوسيولوجية عن أعمال موسيقية وغنائية للأخوين رحباني وزياد رحباني ووديع الصافي وزكي ناصيف، لجهة دور هؤلاء في بناء الهوية الوطنية اللبنانية، أو نقدها لا سيما في أعمال زياد.  

أنتقل من هذه الإستدراك لأكتب بعض الملاحظات عن جانب معين من سهرة الأمس، وأجازف بملاحظة نقدية تطال التأليف الموسيقي لرامي، وهي ملاحظة نابعة من شخص يتذوق الموسيقى أساساً، لا أكثر ولا أقل. ألعزف من قبل مرسال ورامي كان باهراً، وكذلك كان غناء مرسال على الرغم من الهبوط النسبي في قوة صوته عندما يستدعي اللحن الإرتفاع بدرجة الصوت. أما الألحان والتوزيع بين الطرفين، فنصيبهما من الإعجاب كان كبيراً لدرجة تدفع المستمع/المشاهد خلال بعض المقاطع إلى الدخول في حالة من الإنخطاف والتماهي التام مع حالة الوجد التي يخلقها الثنائي خليفة. 

أما الجانب الذي أود هنا أن ألفت النظر إليه، فهو متعلق بحضور المناسبة عن كثب وعلى مسافة بضعة أمتار من كلا الفنانيْن: مرسال ورامي. المشاهدة والإستماع إلى مرسال ورامي عن قرب يسمح ليس فقط بالتقاط التفاصيل لجهة العزف والغناء، وإنما أيضاً بمشاهدتهما بجميع التفاصيل التي تتجلى عبر جسديهما وهما يعزفان، إضافة إلى تعابير مرسال وانفعلاته وهو يغني منفرداً. الملاحظة الأساسية في هذا السياق هي عدم قدرتي على أن أفصل بين مرسال والعود ورامي والبيانو وهما يعزفان عليهما. بدا لي وهما في هذه الحالة أن الآلة التي يعزف عليها كل واحد منهما هي فعلاّ عضواً إضافياً من جسد كل واحد منهما. بدا لي العود كما لو أنه جزء لا يتجزأ من جسد مرسال، وكذلك البيانو بالنسة لرامي. الفرق بين العود والبيانو وبين ذراع مرسال ورامي بالتوالي، هو أن الأخير يعتمد على الدم كشرط  ليقوم بمهمته، أما العود والبيانو فيعتمدان على وعي من يعزف عليهما وعلى مهارة العازف ووجوده بما يتجاوز الحضور البيولوجي. ومع انتهاء الآداء، أحسست أن مرسال ورامي توقفا أن “استخدام” كل من العود والبيانو، كمن يتوقف، على سبيل المثال، عن استخدام فمه بعد الخلوص من إلقاء كلمته أمام حشد من الجمهور. تزاوج الآلة الموسيقية، لا بل اندماجها في جسد مرسال ورامي، لا يمكن ملاحظتها لولا الإقتراب الحميمي والمكاني منهما خلال الحفل الصغير الذي أقاماه في منزل رامي. 

ومع هذا الإندماج ومشاهدته عن كثب، يضاف عنصر آخر على آداء كل من مرسال ورامي. إنها التعابير بالوجه والجسد عموماً التي ترافق الآداء الموسيقي والغناء، فيمسي لآلة العود والبيانو وجه وعيون وشعر وأرجل، هذا بالإضافة الى الصوت عندما يقرر مرسال أن يغني أيضاً. بذلك يكون الجسد مشاركاً بكل ما للكلمة من معنى في الآداء الموسيقي والغنائي. 
ملاحظة أخيرة: يبدو أن قوة التماهي بين “جسد” رامي وآلة البيانو الذي يعزف عليها قد دفعت به للخروج على الوظيفة الصوتية لتلك الآلة الموسيقية. وقد جاء هذا الخروج ليولد أصواتاً تنتمي إلى مرحلة ما قبل تشذيب الأصوات وتطورها لتأتي كما تقدمها الآلات الموسيقية المعروفة في مجال وعلم الموسيقى. والسؤال الذي يجوز طرحه في هذا السياق يتعلق بالفائدة الفنية والذوقية من وراء هذا الفعل، وهل يجوز أن يتجاور الإيقاع الصادر بخبطة القدم أو الضرب اليدوي على القالب الخشبي للبيانو مع الصوت الملحن والصادر عن آلة البيانو؟ بالنسبة لي كمستمع، لم أجد في ذلك عملاً يتناسب مع العزف على البيانو، عدا نفوره في المشهد العام الرائع الذي قام الثنائي خليفة في خلقه.

Leave a Comment