مجتمع

بحثاً عن مصدر قوة النظام السياسي في لبنان: سردية السلطة الحاكمة أم قصور انتفاضة تشرين؟

كتب الدكتور بول طبر 

الكلام في موضوع تراجع إنتفاضة 17 تشرين وانكفائها مسألة معقدة يتداخل فيها المحلي والإقليمي، الذاتي والموضوعي، وأضيف العامل المفاجيء وغير المحسوب، كما في دراسة وتحليل أي ظاهرة إجتماعية – سياسية. فكما يتفاجأ الباحث بحدوث ما هو غير متوقع في موضوع التغيير والإنفجارات الإجتماعية، كذلك الأمر في موضوع الجمود والخضوع للأمر الواقع. غير أن هذا الأمر لا يمنعنا من محاولة فهم هذه الحالة المتراخية لانتفاضة 17 تشرين (أو أي ظاهرة إجتماعية أخرى)، والتركيز كما في حالتنا هذه، على العوامل الأساسية المتعلقة بالسلطة في لبنان، والقوى المتحكمة في مفاصلها.

في مواجهة انتفاضة 17 تشرين والتحدي الفعلي الذي طرحته، قامت السلطة ورموزها بالرد عليها بطرق متنوعة، منها ما اتسم بالعنف والقمع العاري، المتمثل بأجهزة الدولة و”البلطجية” التابعين لها، ومنها ما اعتمد على أعمال مخابراتية، ودس أطراف من قبلها في الشارع لتشويه سمعة المنتفضين وأهداف الإنتفاضة. ولم تتردد أطراف السلطة، كل من موقعه، ولا سيما في المرحلة المبكرة من انطلاق الإنتفاضة، في الإدعاء بأنها كانت ولا تزال من المدافعين عن المطالب التي رفعها المنتفضون، محاولة بذلك “تجسير” العلاقة مع المنتفضين ونزع شرعية مطالبتهم بإسقاط السلطة ورموزها، وإنما من دون جدوى. 

في ما يلي، سأتناول المساعي “الناعمة” التي إعتمدت عليها السلطة في مواجهة الإنتفاضة، بعد فشلها الذريع في إدعاء الإنتساب إلى مطالبها، وذلك بالرغم من محاولة كل طرف من أطراف السلطة توظيف هذا الإنتساب في وجه الطرف الآخر. وفي هذا السياق نجد أن القوى المتحكمة بالبلد اعتمدت ولا تزال على سرديتين أساسيتين للحفاظ على “شرعيتها” في نظر القواعد التي لا تزال تؤيدها. فيما يلي سوف أعرض السمات الأساسية لتَيْنك السرديتين، وأبين قدرتهما على محاصرة وتطويق انتفاضة 17 تشرين، عن طريق الحفاظ على “القواعد الشعبية” للقوى المتحكمة بلبنان وشبكات المستفدين من تلك القوى. 

السردية الأولى تقوم على فكرة أساسية مفادها أن الأزمة الراهنة في لبنان سببها القوى الخارجية المعادية للبنان المقاوم (أي الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي). وتهدف هذه القوى من وراء تأزيم الأوضاع في لبنان إلى إضعاف المقاومة الإسلامية المتواجدة على أراضيه، ودفع البلد في نهاية المطاف لقطع العلاقة مع “محور الممانعة”، وعقد معاهدة صلح مع الكيان الصهيوني وتطبيع العلاقة معه، مقابل التدخل لوضع حد للأزمة في لبنان ودفع الديون التي يرزح تحت ثقلها. إنها سردية تقوم على “خورجة” الأسباب الداخلية للأزمة في لبنان، وبالتالي تبرئة الطاقم الحاكم (أو قوى 8 آذار) من أي مسؤولية عن إنتاج تلك الأزمة. ويتم الترويج لهذه السردية في مختلف المناسبات (أهمها بالطبع الإطلالات الإعلامية لأمين عام حزب الله، السيد حسن نصرالله) وعبر المنصات الإعلامية، لا سيما منصات التلفاز ووسائل التواصل الإجتماعي (ملاحظة: هذا السردية ملتبسة طائفياً وقابلة بالتعريف للتواصل مع السردية الثانية المذكورة أدناه).

أما مصادر تقبل هذه السردية وتبنيها من قبل أوساط شعبية واسعة، فهي عديدة يمكن الإشارة إلى أن أهمها هو التقاعس التاريخي للدولة والسلطة اللبنانيتين في القيام بواجبهما الوطني في الحفاظ على سيادة الأراضي اللبنانية، والدفاع عن جنوب لبنان في وجه الخطر الإسرائيلي وعدوانه المتكرر على لبنان، أرضاً وشعباً وثروات طبيعية.  

بالطبع، لا يتبنى جميع أطراف الطاقم الحاكم هذه السردية (تيار المستقبل، حزب القوات) لأسباب تعود إلى أن هذه السردية توجه أصبع الاتهام إلى معسكر الأصدقاء الدوليين الذي يتحالفون معهما. لذلك نجد أن هذا الفريق يعتمد أساساً على سردية مختلفة للحفاظ على قواعده “الشعبية” وعلى تماسك تلك القواعد. إنها السردية الطائفية التي تتمحور حول ما يسمونه ب”حقوق الطوائف” وما يتناسل منها من مطالب. وبحسب هذه السردية، تعود الأزمة المستفحلة في لبنان إلى “سلوك” الآخر الطائفي ومنعه للطائفة المعنية من ممارسة حقها الكامل في إدارة شؤون البلد المتعددة. بذلك يتم تصوير المشاكل التي يعاني منها الشعب اللبناني (انهيار العملة الوطنية، تفشي الفساد، البطالة، تراكم الدين العام، إلخ) بأنها ناتجة عن حرمان الطوائف لبعضها البعض، ومنع الواحدة منها من الحصول على حصتها في الحكم والحكومة من قبل الطائفة الخصم. وعلى إيقاع هذا العراك الطائفي يتم شدّ عصب الطوائف المتخاصمة مما يؤدي إلى الحفاظ على “شعبية” القوى الطائفية – السياسية المتحكمة بلبنان، ومن ضمنها  بعض أصحاب السردية الأولى (حركة أمل بشكل أساسي) الذين يشهرون السردية الطائفية ذاتها كمصدر آخر لقوتهم “الشعبية”. والمهم أيضاً فيما يتعلق بموضوع هذا المقال هو أنه من النتائج الصافية لشدّ العصب الطائفي تغْييب الأسباب الفعلية للأزمة المستفحلة في لبنان، ومنع فئات شعبية واسعة من الإنضمام تحت لواء انتفاضة 17 تشرين ومطالبها في تغيير النظام والقوى الحاكمة فيه بسبب شيوع هذه السردية الطائفية وتصويرها أن الأزمة الراهنة هي في الأساس أزمة حرمان لطوائف من “حقوقها” في الحكم والحكومة.

السرديتان المشار إليهما ليستا مجرد قناعات تسْتوطن وعي الفئات التي تتبناهما، بل هما نظام رمزي متكامل يتم تعميمه والدفاع عنه عبر الهيئات الحزبية، ووسائل الأعلام المرئية والمكتوبة ووسائل التواصل الإجتماعي، وبواسطة العديد من الكتّاب والصحافيين والإعلاميين والكوادر الحزبية، إلخ. إذن هما سرديتان لهما طابع مادي ومؤسساتي، وليستا مجرد قناعات ووعي لهما طابع ذهني. وما يزيد من صفتهما “المادية” هو أيضاً قدرتهما على استدرار ليس فقط المكانة الإجتماعية الرفيعة لمن تصدر للدفاع عن “حقوق” الطائفة، وإنما أيضاً المنافع المعيشية (وظائف، فرص استثمار وتربّح، معاشات بدل مهام إدارية وعسكرية، خدمات صحية وتعليمية، تسهيلات تهريب وغيرها من أعمال غير قانونية، إلخ)، وبالتالي خلق قاعدة زبائنية واسعة خاصة بكل زعيم أو حزب طائفي.

ختاماً، نسوق هذا الكلام ليس لتبرير القصور الذاتي للقوى التي تنتسب إلى اللحظة الثورية لانتفاضة 17 تشرين وحسب، لا سيما في مجال تنظيم القوى المنتفضة وضرورة إنتاج البرنامج السياسي المشترك، وإنما أيضاً لفهم فعلي وملموس لمصادر قوة النظام والقدرة النسبية للقوى المتحكمة في البلد على صيانة قاعدتها “الشعبية”.             

Leave a Comment