ثقافة

اليسار وتحدي إعادة تعريف الهوية وبناء الذات

بول طبر

“اليسار” ِتعبير شمل تاريخياً قوى سياسية تضمنت الأحزاب الشيوعية والأحزاب الإشتراكية الديموقراطية المتحدرة من الأممية الثالثة، كالحزب الإشتراكي الفرنسي وحزب العمال في كل من إنكلترا وأستراليا. وإذا تم التدقيق في أحوال هذه القوى في أيامنا هذه، نجد مثلاً أن بعض الأحزاب الشيوعية أعلن التخلي عن فكرة وجود الحزب الشيوعي، واستبدلها بحزب لا يهتدي بما كان يشار إليه بالعقيدة الشيوعية، أو أقله لا يحمل صفة الشيوعية، ومنها من بقي متمسكاً بحزبه كما كان عليه، رغم تعرضه للانشقاقات الداخلية المتناسلة، لدرجة أنه تحول إلى تنظيم ضعيف وخاوٍ من أي وزن سياسي يستند إلى قوى اجتماعية حيَّة. ومعروف أيضاً أن هناك أحزاباً استوْلت على السلطة وبنتْ أنظمة “شيوعية” منها ما انهار بالكامل بعد سقوط حائط برلين (الإتحاد السوفياتي سابقاً والمعسكر الإشتراكي التابع له)، ومنها من بقي مستولياً على السلطة بالإعتماد على مزيج من التعديلات في سياسته الإقتصادية وارتفاع درجة التشدد في القبض على السلطة والمجتمع عموماً، كما هي حال جمهورية الصين الشعبية.

أما بالنسبة إلى الأحزاب اليسارية التي يمكن أن تنضوي تحت عنوان الأحزاب الإشتراكية الديموقراطية، فإننا نلاحظ لديها درجات متفاوتة من التراجع على صعيد البرامج السياسية الإجتماعية (مثلاً قبولها بتقليص دور وحجم دولة الرعاية الإجتماعية) في البلدان التي تصل فيها إلى السلطة، والإستمرار في تجاهلها لهيمنة الدول الإستعمارية على الدول الفقيرة واستغلال ثرواتها، لا بل المشاركة في هذه المشاريع في أغلب الأحيان.

بناءً على هذه الحقائق، يبرز السؤال المتعلق بإعادة تعريف اليسار من جديد. فهل يمكن اعتبار الحزب الشيوعي في الصين ممثلاً لهوية اليسار المعاصرة؟ أم أن هذه الهوية تجد نفسها متجسدة في العقائد والأنظمة القائمة في كوبا أو فيتنام أو كوريا الشمالية؟ وهل أن اليسار يتكون من الأحزاب المتحدرة من الأحزاب الشيوعية المنحلة، أم أنه مُمَثلٌ بالأحزاب الشيوعية التي لا تزال متمسكة بهويتها المتحدرة من عهد الإتحاد السوفياتي ومعسكره في أوروبا الشرقية، والرافضة لفكرة سقوط ونهاية هذا العهد، والولوج في مسار إعادة بناء ذاتها على أسس ومباديء جديدة؟ وأخيراً، إذا رفضنا هذه التعريفات لليسار الشيوعي ولليسار الإشتراكي الديموقراطي المشدود أكثر فأكثر إلى معسكر ومباديء النيوليبرالية، ما هي الخصائص الفكرية – السياسية والتنظيمية لليسار الذي نطالب بتجديده وإعادة تعريف هويته بالتمايز عن هوية القوى اليسارية المشار إليها أعلاه؟

سؤال لا أدعي القدرة على الإجابة عليه بسهولة، أو القدرة على الإحاطة بكافة جوانبه. فهو أولاً، مرهون بالإستناد إلى تجارب ضحايا الأنظمة الرأسمالية بمختلف أشكالها الليبرالية وغيرها، وردود فعلهم على معاناتهم من تلك الأنظمة، لا بل الأجوبة التي يقومون بصياغتها لمعالجة هذه المعاناة. وبهذا المعنى فإن إعادة تعريف هوية اليسار في الزمن الراهن ليس تمريناً فكرياً محضاً لا يستند إلى الواقع الذي تطمح قوى اليسار لمعالجته. وهو أيضاً سؤال يقتضي الإنطلاق من قناعة مفادها أن الإجابة عليه ستكون محصلة تجارب وأجوبة عديدة وغير مكتملة، لا يمكن لأحد، بالمعْنَيين الفردي والجماعاتي-الحزبي، أن ينتمي إلى اليسار المنشود، وأن يدعي القدرة حصرياً على تقديمها بمفرده.

بذلك تكون مهمة إعادة تعريف وبناء هوية جديدة لليسار المنشود بالضرورة محصلة لمساهمات عديدة ومتنوعة، منها ما هو جزئي ومنها ما يحتمل المراجعة والتعديل على ضؤ النتائج التي توصلت اليها.

وتحت جميع الظروف ما من مساهمة لوحدها يكون بمقدورها ان تقدم سلفاً الجواب النهائي لمسألة التعريف الجديد للهوية اليسارية وإعادة بنائها.

اذا الإجابة على سؤال الهوية الجديدة لليسار هو مسار متناقض ونزاعي الى حد ما. والأهم من كل ذلك، لا يمكن فصل تلك الإجابة عن ضرورة تقديم قراءة متجددة للنظام الرأسمالي في المرحلة الاخيرة من تطوره (تطور قوى ووسائل الانتاج التي يمتلكها)، ولا عن تجارب وظروف ضحايا هذا النظام وما تقدمه هذه الضحايا، وضحايا جميع أشكال وأنماط السيطرة على الإنسان المعاصر، من أجوبة على المشاكل المتنوعة التي تعترضهم.

انا هنا لا أتكلم من مدخل الحزبي المتزمت (اي القابض على الحقيقة، والذي يعتبر أن الآخر هو دائماً على خطأ). اذْ انني على يقين بان اعادة تعريف هوية اليسار ودوره هي مهمة جماعية، لا تتم الا بمشاركة من قوى حية ومتعددة المصادر (حزبية ومدنية ونقابية ونسوية وشبابية الخ) في المجتمع. وذلك يستدعي التخلي النهائي عن مفهوم “الحزب الطليعي” والقائد حصرياً للثورة. هذا المفهوم قد سقط تاريخياً ويجب التخلي عنه دون أي تردد.

وتماشياً مع هذا الطرح، تمسي الدولة، وما تمثله من مؤسسات وقوانين وسياسات، المكان الذي تتجسد فيه القرارات والسياسات التي تتوصل إليها أحزاب وقوى اليسار والمجتمع المدني من نقابات وهيئات وحركات وما إلى ذلك، بعد أن تتمكن من تعديل موازين القوى السياسية لصالح هذه القرارات والسياسات. وبالطبع يقتضي ذلك، لا بل يستدعي التمسك بمباديء الديموقراطية وحق الشعب في انتخاب ممثليه في السلطة بصورة دورية، وإخضاعهم إلى المراقبة والمحاسبة الشعبية الحرة، وبناء دولة القانون والتمسك بالحرية وفصل السلطات، وما إلى ذلك من قوانين ومؤسسات تكرِّس الديموقراطية وسيادة الشعب وحريته. فالدولة الديموقراطية هي الإطار السياسي الأنسب والأضمن لضبط المسار (النزاعي) السياسي لبناء المجتمع والدولة الإشتراكية على قاعدة التعريف الجديد لهوية اليسار الإشتراكي.

أما على الصعيد العملي، فمن الطبيعي ان تبدأ القوى المعنية بإعادة تعريف وبناء هوية اليسار الإشتراكي مما هو لديها من كوادر حزبية وغيرها. لكن من غير الطبيعي والمقبول ان لا تنجح هذه الكوادر بجذب الاجيال الجديدة الى جانب هذا المشروع المنشود. ومن شروط ذلك، كما أشرنا سالفاً، تجديد الهوية وبناء الدور على اساس طرح سياسي- تنظيمي مواكب ومقنع، ويخاِطب اصحاب المصلحة في مشروع التغيير. ولا يمكن أن يتم ذلك إلَّا بالتعاون مع الآخرين كل من موقعه أكان في داخل الحزب أو المنظمة المعنية أو خارجها.

وأخيراً، لا بد من القول في زمن انتشار النشاط السياسي الإفتراضي، ان الاكتفاء بالكتابة والتعبير عن الرأي عبر وسائل الاتصال الاجتماعي غير كافٍ. وكما يقول المثل الإنكليزي، علينا جميعاً ان نوسِّخ ايدينا.

Leave a Comment