سياسة

المعارضة في تونس تتسع صفوفاً واتحاد الشغل يصعِّد مستوى المواجهة

زاهي البقاعي

من المقرر أن تشهد تونس في  25 يوليو/ تموز المقبل استفتاءً على دستور جديد للبلاد أعدته لجنة عينها الرئيس قيس سعيد. وقبل التاريخ المذكور أعلنت العديد من القوى السياسية رفضها لما وصفته بمسرحية الحوار و”الاستفتاء المخادع”، في إشارة إلى الاستفتاء المقرر. وقبل هذا الموقف السياسي المعارض لسلطة سعيد الفردية، كانت البلاد قد دخلت في مسار اعتراضي واسع على سياساته، بدءاً من الجهاز القضائي الذي رد على إقصاء سعيد عدة عشرات من القضاة بدعوى اصلاحه، إلى اضرابات قطاعية ضمت المعلمين وقطاع النقل والبنوك و.. وشملت الاضرابات والتحركات المحافظات، نتيجة الأزمة العاصفة التي ترزح تحتها البلاد، والتي ظهرت خلال الاسابيع الأخيرة بعد ارتفاع ركود الاقتصاد وعجز الدولة عن دفع الرواتب منذ ثلاثة أشهر. ومن المتوقع أن تزداد الأزمة تفاقماً مع الشروط التي وضعها صندوق النقد الدولي على تونس، مقابل الحصول منه على قرض قيمته أربعة مليارات دولار. وهي الشروط التي وجدت فيها معظم القوى المزيد من تحميل الفئات المُفقرة أعباء النهوض بالبلاد والقطاعات التي وصلت بدورها إلى الحضيض. وبالطبع واكب ذلك ارتفاع في الاسعار ومعدلات البطالة وشلل المقومات الانتاجية للمؤسسات.

وعليه يمكن القوى أن مختلف القوى السياسية باتجاهاتها وتنوعها تشارك في التصدي لسياسة سعيد بهذه النسبة أو تلك، بعد أن عطلت المؤسسات وحلت البرلمان وحصرت السلطات بيد الرئيس دون سواه. ومع أن تلك الإجراءات التي مارسها سعيد حصلت بداية على بعض التأييد الشعبي، باعتبارها أصابت القوى الاسلامية التي حاولت وضع البلاد في قوالبها، وبالتالي تعطيل التقدم الذي أحرزته في غضون العقود المنصرمة، وبالأخص منها تلك التي عاشتها البلاد والقطاعات بعد التحولات التي تبعت ” ثورة الياسمين”، التي فجرها البوعزيزة، والتي سارت بسرعة النار في الهشيم في طول المنطقة العربية وعرضها. وهي الثورة التي ومذ أن نجحت في إنهاء حكم بن علي، وإرساء منظومات حكم جديدة من جانب قوى التغيير، والبلاد تدور على نفسها خصوصاً مع الارتكابات التي قامت بها جهات مرتبطة بجمعية النهضة الاسم الحركي لحركة الأخوان المسلمين، والتي بلغت ذروتها في عملية الاغتيال التي استهدفت معارضين لوضع يدها على البلاد ومصادرة الحريات، ما فتح السبيل أمام سعيد للظهور بمظهر المنقذ من هذا التوازن القلق، والمطلوب لإعادة الروح للحياة السياسية وعمل المؤسسات، ما كان يؤمل منه أن ينجح في الدفع إلى الأمام بالثورة ومسارها السلمي الديمقراطي، بدل تلك السياسات التي مارستها حركة النهضة بمرجعيتيها الداخلية والخارجية.

على أن حصر سعيد الصلاحيات في يده وتعطيل المؤسسات سرعان ما كتَّل قوى متنوعة في مواجهته، ما أفقده الغطاء الشعبي الذي حظي به في المرحلة الأولى من توليه المسؤولية. ولعل بيت القصيد في ذلك كله يعود إلى النموذج الرئاسي الذي اختطه في ممارسة الحكم، وحصر الصلاحيات والمسؤوليات في شخصه، ما ذكر التونسيين بحكم الحبيب بورقيبة وبن على، إنما هذه المرة معطوفاً على أزمة اقتصادية – اجتماعية مستفحلة.

بالطبع لجأ سعيد إلى محاولة تطويع قوى الاعتراض سواء أكانت سياسية أو نقابية، كما حاول إبعادها عن الشارع، وبالتالي بقائه ممارساً ما انتزعه من صلاحيات المؤسسات في فريقه، لكن هذا المنحى سرعان ما انقلب عليه من خلال القوى الاستقلالية السياسية والنقابية العمالية. من هنا كانت الضربة الأهم بين الضربات العديدة التي تلقاها جاءت من جانب الاتحاد العام التونسي للشغل (أكبر اتحاد نقابي عمالي مستقل في البلاد) عبر الإضراب الذي نفذه في القطاع العام في 16 الجاري، والذي شمل المطارات والموانئ البحرية في سائر المؤسسات العامة في البلاد وقاد إلى شلل مختلف المرافق.

وبدورها أعلنت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين مساندتها الاتحاد العام للشغل من أجل تحقيق نيل مطالبه المشروعة. وفي الوقت نفسه كانت قوى معارضة تدعو إلى التظاهر الأحد الموافق  في 19 الجاري ضد سياسات الرئيس قيس سعيد. فقد دعت قوى معارضة منضوية ضمن جبهة الخلاص الوطني إلى المشاركة في التظاهر والاحتجاج ضد سياسات الرئيس قيس سعيد. مبررات الاضراب الذي نفذه اتحاد الشغل تعود إلى ما وصفه بممارسات سياسة الحكومة الحالية، التي تصر على اعتماد نهج الحكومات السابقة في التنكر لحقوق العمال وتحميلهم تبعات خياراتها المؤدية لنسف المكتسبات، والتراجع عن الاتفاقيات. ومع اعلان الاضراب تعرض الاتحاد لحملة تشويه وتشهير غير مسبوقة. على أن الموقف الحكومي لم يقتصر على ذلك، إذ تجاوزه إلى اعتماد كل السبل لإفشال الاضراب من خلال ما يعرف في تونس بـ “التسخير”، وهي آلية قانونية تتيح للحكومة إجبار موظفين على الدوام في حال الإضراب، والحلول محل زملائهم المتغيبين عن العمل. وفي ما ألمحت بعض الأوساط الحكومية لقطع الطريق عن المشاركة الواسعة إلى أن الحوار المفترض عشية الاضراب من شأنه أن يسقط مبرر التحرك، كان الاتحاد بدوره يُذكِّر أن الحكومة رفضت هذا الحوار منذ شهر آذار/ مارس الماضي، ضاربة عرض الحائط بالتحذيرات التي توجهت لها. ومنذ ذلك الحين ترك الاتحاد الباب مفتوحاً أمام الحكومة للتفاوض، ولكن دون جدوى بالنظر إلى عدم جدية السلطة. الجانب الموازي في سياسة الحكومة تمثل في تكرار الحديث عن الخسائر المقدرة أن تصيب البلاد جرَّاء الاضراب نتيجة اقفال المطارات والموانىء، خصوصاً مع بداية الموسم السياحي والتي تنعكس سلباً على مختلف القطاعت. والرقم الذي جرى تداوله حول الخسائر يتجاوز المليار دينار أي بما يتجاوز الـ 300 مليون دولار. وكان المكتب التنفيذي للاتحاد أعلن أن الإضراب شمل المؤسسات العمومية في مختلف القطاعات والمناطق بما فيها المراكز الصناعية المهمة. وقبل ذلك، أكد الاتحاد التونسي للشغل أنه لن يقبل الاتفاق الذي تسعى الحكومة التونسية للتوصل إليه مع صندوق النقد الدولي لاقتراض نحو 4 مليارات دولارات، مقابل تنفيذ جملة من “الإصلاحات” التي توصف بالمؤلمة، وتشمل خفض كتلة أجور موظفي القطاع العام وتقليص الدعم الحكومي وغيرها من اجراءات تصيب أكثر ما تصيب الفئات العاملة والمفقرة ومحدودة الدخل في البلاد.

يمكن القول اختصاراً أن تونس دخلت خلال الأشهر المنصرمة في حومة سلسلة من الاضرابات غير المسبوقة. فقد عطَّل اضراب القضاة المحاكم المتواصل منذ ثلاثة اسابيع، احتجاجاً على محاولات الرئيس قيس سعيّد السيطرة على القضاء بالكامل، بعد إعفائه 57 قاضياً، بيّنت كل المعطيات أن أغلبهم يشغل مناصب مهمة، في سلسلة قضائية يحاول النظام السيطرة عليها، تكريسا لحكم الفرد المطلق والانتهاء من خصومه، لكنه أمام صمود القضاة كال تهم الفساد والزنى وما شابه من منوعات التشهير بهم. ولم يكتف بذلك بل حاول النيل من الاتحاد العام للشغل بعيد مؤتمره الذي قرر فيه الاضراب بواسطة وزيرة العدل ليلى جفال للتأثير على توجهاته. وهكذا تبين أن الجميع مستهدف، وأن الصراع السياسي تحت سقف الديمقراطية والمؤسسات الدستورية أرحم من كل الخيارات الفردية التي يجري فرضها على البلاد.

والحصيلة أن تونس تعيش مخاضاً صعباً بين مسار ديموقراطي من أجل الوصول إلى تسوية سياسية – اجتماعية، تعيد وصل ما انقطع مع ثورة الياسمين، ومحاولات إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وتكرار السياسات والأخطاء نفسها، ظناً أن النتائج ستكون مختلفة عما جرت ممارسته منذ سنوات وقاد إلى النتائج المعروفة. ما يهدد تونس الخضراء بالتصحر ثانية، ووأد تجربة حرية وتحرر من التسلط على الحياة الديمقراطية والسياسية والنقابية في البلاد.

Leave a Comment