عائدة خداج أبي فراج
الفساد هو ظاهرة متجذرة على إمتداد التاريخ، أي منذ التشكل القبلي والمجتمعي، ولا تقتصر على زمان أو مكان. وهو علّة تبرز في سلوك الإنسان، خاصة عند توليه السلطة، وجنوح في مسلك الفرد أو الجماعة يجب مواجهته واستئصاله كي يستقيم المجتمع، وتسود العدالة.
يعرّف الفساد بأنه “إساءة إستخدام السلطة لتحقيق مآرب نفعية ومادية في غياب المؤسسة السياسية بالمعنى المعاصر”.
وكلمة فساد في اللغة الإنكليزية “corruption” مشتقة من الكلمة اللاتينية “Corruptio” التي تعني تدمير، إفساد، أو إغواء. فهي تشير إلى عملية تدمير وإفساد شيء ما، سواء كان هذا الشيء مادياً أو معنوياً.
أما في الاستخدام الحديث، فأن كلمة فساد تعني الأفعال غير القانونية، أو غير الأخلاقية، وإساءة استخدام السلطة أو المنصب العام لتحقيق مكاسب شخصية غير المشروعة عن طريق الإستجداء والرشوة والمغريات غير القانونية، ليصبح الفساد علاقة متبادلة بين المفسد والفاسد، وقصور أخلاقي – سلوكي عند الفرد أو الجماعة يطيح بمنظومة القيم والسلوكيات، ويعيق المسار الديمقراطي.
في الحقبة البدائية، كان الفساد فردياً. لكنه تحول في عصرنا الحاضر إلى فساد منظم تحفظه التشريعات التي تحولت إلى مطيّة ينتهجها المفسدون لنهب خيرات الشعب والدولة من أجل مصالحهم الخاصة، وثرائهم غير االمشروع حتى عمت هذه الآفة كافة المرافق، والمؤسسات، والفئات، ووصلت إلى القابعين في قصور العدل.
إن ظاهرة الفساد تشمل عشرات الدول، إن لم نقل جميعها، ولكن بنسب وأحجام مختلفة. وهذه الظاهرة تتنامى وتتفاقم في ظلّ غياب الديمقراطية والعدالة، وتتفشى في الدول الإستبداديّة والقمعيّة بشكل خاص، وفي ظل الأنظمة العسكريّة، والأوليغارشيّة والتوتاليتاريّة التي تحتاج إلى أبواق تدافع عنها، وبطانة تحمي مصالحها، فيكثر فيها المستزلمون، والمصفقون، والإنتهازيون.
ويجد الفساد أيضاً أرضاً خصبة خلال الحروب وبعدها، خاصة الأهلية منها، وبعد الهزائم الكبرى، والاحتلالات وإنهيار الأنظمة، وخير مثال على ذلك ما صرّح به الرئيس الروسي بوريس بلتسين بعد انهيار الإتحاد السوفياتي، قائلا: “إن روسيا أصبحت قوة مافيويّة”.
والأمثلة كثيرة في هذا الإطار، فلم تسلم منه السلطة الإسلامية في القرون الوسطى، عند أفول نجم الخلافة العباسية، وتفككها وإنهيارها، وتولي المرتزقة المناصب، فعمّ الظلم والاضطهاد، وكثرت الضرائب والجباية، وشاعت ظاهرة شراء المناصب الوزاريّة منها والعسكريّة والقضائيّة والإداريّة، والاستئثار بالسلطة، ما أدّى إلى نشوء الدويلات التي أضعفت الخلافة العباسيّة وأنهكتها وأدّت إلى أفولها.
وكان من ضحايا هذا الفساد الأدب والشعر والفن والثقافة. فشاع الأدب التكسبي، وأصبح رجل الأدب يطمح أن يكون كاتباً في ديوان الخليفة أو الأمير، أو مستعطياً في بلاطه، أو نافخاً في بوقه. وشاع أدب الاستهداء بين التابع والمتبوع، وتحول المبدع إلى لسان شاكر لنعم سيّده عليه. وساد أدب الاستجداء والاستعطاء ما أدّى إلى ظهور طبقة فطرية لصيقة بالسلطة تعاني من عقد الوصولية والشهرة، طامعة بشيء من المال الذي نهبته أو صادرته السلطة من الرعيّة. وقد شكل بلاط سيف الدولة الحمداني مرتعاً لهذه الفئة من الشعراء المداحين كمثل على ذلك وليس حصراً. هذا ما ساد في الأمس البعيد، وما زال قائماً في ظل الأنظمة العربية القمعية والمتخلفة.
وتتوالى الفضائح في دول الشمال والجنوب حول تورط كبار المسؤولين والسياسيين، ورجالات الصفوة الإجتماعية في صفقات، ورشاوي، وعمليات تبييض الأموال. لكن هناك فرق شاسع بين فساد المؤسسات في الغرب والفساد المستشري في الدول العربية ومنها لبنان. فالفساد في الدول المتقدمة تواجهه سلطتان: سلطة القضاء الصارمة، وسلطة الرأي العام الذي يحاسب ويدين. بينما القضاء في البلدان العربية، وتحديداً في لبنان، هو تابع للسلطة السياسيّة، ويفتقر إلى الاستقلاليّة والنزاهة في محاربة الفساد والمفسدين. أما الرأي العام فهو شبه مفقود أو معطل، ولا يشكل قوة ضاغطة أو محاسبة لاعتبارات عديدة، منها العشائريّة والعائليّة، والمناطقيّة والحزبيّة، وقبل وبعد الطائفيّة والمذهبيّة، وانعدام الحس بالمواطنة نتيجة غياب أو تغييب الدولة عن حماية حقوق المواطنين كي يبقى الشعب رهينة لدى زعماء الطوائف.
وعلى الرغم من إشتراك لبنان بالعديد من مظاهر الفساد السائدة في الدول الأخرى، إلا أنه يتميّز بخصوصيات نظراً لنظامه الطائفي القائم على المحاصصة، حتى أصبح الفساد ظاهرة معششة في كافة المؤسسات العامة والمصالح المستقلة، وما حصل في البنك المركزي في الآونة الأخيرة خير مثال على ذلك.
وتعود جذور الفساد في لبنان والمنطقة إلى شيوع نظام الملل في الدولة العثمانية الذي فتح المجال أمام الدول الإستعمارية الأوروبية أن ترعى مصالح الملل والمذاهب. وقد ظهر بالملموس ومنذ قيام نظام القائمقاميتين ونظام المتصرفية الأثر البليغ للدور الذي لعبه الاستعمار في شحن التعصب الطائفي على قاعدة فرّق تسد.
وبدءاً بالميثاق الوطني، ومنذ الإستقلال وقيام دولة المزرعة، وصولاً إلى دولة الميليشيات زمن الحرب الأهلية وبعدها، أصبح المشروع الطائفي أقوى من الدولة، وأصبح لكل طائفة مشروعها الإلغائي للآخر. وحلت فكرة “التعايش” محل “العيش المشترك”، وهذا ما مارسته على أرض الواقع المارونيّة السياسيّة، والسنيّة السياسيّة، ولاحقاً الشيعيّة السياسيّة.
لقد تحولت الدولة بعد الحرب الأهليّة وإتفاقيّة الطائف إلى مواقع نفوذ ومحاصصة طائفيّة، وأصبح النهب المنظم لموارد الدولة قيمة إيجابيّة و”شطارة”، ولم يعد عيباً أخلاقياً بل مظهراً من مظاهر تحصيل الحقوق وتعزيز الإمتيازات الطائفيّة والمذهبيّة.
وقد تعزز هذا المنحى التقاسمي لموارد الدولة عبر المجالس والصناديق التي توزعت حصصاً على الطوائف التي إتفقت على تعطيل تنفيذ القوانين، وكف يد القضاء عن المحاسبة، وإبقاء محاسبة أهل السلطة في يد المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، ما أسفر عن إنعدام سلطة الدولة نفسها. وبحجة المقتضيات السياسيّة والسلم الأهلي، أصبح الفساد محميّاً ومدعوماً من قبل الطوائف ومنظومة الإحتكارات، فتمت شرعنته.
إن مقولة التعايش بين الطوائف، ومبدأ الديمقراطيّة التوافقيّة يتناقضان ومبدأ المساواة في المواطنة و”العيش المشترك” الذي ترعاه القوانين العادلة ومبدأ التساوي في الحقوق والواجبات. فأن صيغة “التعايش” هي التي تؤسس لإستشراء الفساد لأن علاقة المواطن بالدولة تتم من خلال الطائفة، والمحسوبيات، والمحاصصة الحاضنة للفساد، فتتحول الدولة إلى قطاعات يتقاسمها الجميع على حد سواء، ويتحول التوازن الطائفي إلى فساد متوازن. فهذه الصيغة تمنع قيام دولة القانون والمؤسسات، ويصبح المواطن مشظى بين الولاءات.
إنّ “الحرب الأهليّة” قد شكلت مجالاً حيويّاً لانتشار الفساد والإفساد. فقد نتج عنها طبقة “أثرياء الحرب” الذين أمعنوا في شراء الضمائر والولاءات، فأصبحت الإدارة العامة خاضعة للفساد المنظم، بل ناظمة لقوى الفساد عن طريق تقاسم المغانم والمحاصصة بين القوى الفاعلة على الأرض والأخرى في السلطة.
لذلك يمكن القول أن الفساد في لبنان هو نتاج النظام الطائفي المعاق والمعيق، والمشرع للفساد والمفسدين الذين يؤمن حمايتهم، ويحوّل ارتكاباتهم إلى أمجاد، وهو أيضاً من نتاج الحرب الأهليّة التي أوصلت الميليشيات إلى مواقع صنع القرار.
لقد أقرّ المجلس النيابي منذ بداية الخمسينيات قانون “من أين لك هذا؟”، بغية محاسبة المسؤولين الذين أثروا عبر السلطة وعلى حساب الشعب والمال العام، ولكن حتى الساعة لم تتم محاسبة أحد من الفاسدين، وذلك بسبب النظام الطائفي الذي يعيق ممارسة الديمقراطية الحقيقية، ويقف حجر عثرة أمام قدرة الشعب على إيصال من يمثله ويمثل مصالحه إلى مواقع القرار. فالشعب لا ينتخب ممثليه، بل يبايع زعماءه، ويعتبر القانون قيداً، وينظر إلى السلطة كعدو له يجب التحايل عليه، بدل اعتبارها حامية وخادمة لمصالحه المحقة.
وهكذا أصبح للفساد أذرع أخطبوطيّة طالت كافة القطاعات الاقتصادية، والمالية، والتربوية، والثقافية، والإعلاميّة، إضافة إلى الطاقة والبيئة والمجالات الحيويّة.
ففي المجالين الاقتصادي والمالي، أدى الفساد المستفحل إلى مصادرة خزينة الدولة، وتقاسم أموالها بين من هم في السلطة، ما أوصل البلد إلى الإنهيار الاقتصادي الشامل، والمديونية، والعجز المالي الذي انعكس سلباً على سائر فئات الشعب، خاصة الطبقة الوسطى التي تشكل المحرك الأول للاقتصاد وميزانه الذهبي، فتحولت هذه الطبقة إلى فئة تلامس خط الفقر. أضف إلى ذلك الرشاوي والتهريب عبر الحدود الشرعيّة وغير الشرعيّة، والنظام الضريبي الذي يطال الفئات الشعبية، ويحافظ على حقوق الأثرياء الذين يتحايلون على القانون، ويتهربون من دفع الضرائب.
وقد طال الفساد القطاع التربوي برمته ما انعكس سلباً على القطاع التربوي الرسمي والجامعة اللبنانية التي أصابتها المحاصصة الطائفية في الصميم، والتي تراجعت وتقهقرت أمام سطوة المؤسسات التربوية الخاصة التابعة للطوائف والإرساليات الأجنبية، والمؤسسات الدينية، فشاع مبدأ المتاجرة بالشهادات الجامعيّة المزورة على قاعدة البيع والشراء. ورُخص لجامعات نمت كالفطريات دون حسيب أو رقيب، أو الحد الأدنى من المستوى الأكاديمي، وذلك على حساب النظام التربوي، وكتاب التاريخ الموحد، والمواطنة السليمة.
ولم ينج الإعلام أيضاً من قبضة الفساد، فإتفاق الطائف الذي دعا إلى إلغاء الطائفيّة السياسيّة، سوّغ المحاصصة في الإعلام، ووزع وسائل الإعلام المرئي، والمكتوب، والمسموع على الرئاسات الثلاث والأحزاب الطائفية، فاستبدل الولاء للوطن بالولاء للطائفة والعائلة والفرد، وانحسر دور بعض الإعلام ليقتصر على تلميع صورة السلطة الفاسدة والمفسدة.
ويقول أدوارد سعيد في كتابه “صور المثقف”: “إن أبرز وجه من وجوه المثقف هو الموقف النقدي من خارج إطار الآلة السياسيّة الحاكمة. ويجب أن يكون عين مساءلة ومراقبة للنظم السياسيّة والإجتماعيّة والدينيّة السائدة، لكن في ظل الفساد الثقافي يتحول المثقف إلى بوق للسلطة، أو مسوّغ للأنظمة، أو مداح في البلاط”. وهذا هو واقع الحال بالنسبة لبعض المثقفين والإعلاميين في الوقت الراهن.
وفي ظل سيادة الفساد، تحولت الطاقة إلى ظلمة، وتحول لبنان المنارة إلى ليل كالح يتحكم فيه أصحاب المولدات ومن يقف وراءهم. أمّا على صعيد البيئة فأصبح لبنان من شماله إلى جنوبه، ومن مشرقه إلى مغربه، مكباً للنفايات ومرتعاً للقوارض التي تمعن في نشر الأمراض والأوبئة. وهذان القطاعان يتطلبان بحثاً مستقلاً نظراً لاستفحال الفساد، والسرقة، ونهب مقدرات الدولة من قبل المسؤولين والمستزلمين.
وبعد ما عشش الفساد في كافة القطاعات والدوائر والأجهزة، وتحول إلى آفة تهدد كيان الوطن واستقراره، وأمنه، واقتصاده، وإلى خطر يطيح بمنظومة القيم والسلوكيات، وبالقوانين، والمؤسسات، ويعطل التنمية، ويعيق التطور، وتنتفي معه الحريات، ومبدأ تداول السلطات واستقلاليتها، والاحتكام إلى الأكثرية التي تعيد قسراً انتخاب هذه السلطة الفاسدة، فلا بد لنا من محاولة لتحديد أسباب الفساد من أجل إيجاد الحلول المرجوة.
فالأسباب كثيرة ومتداخلة تندرج في إطار الطائفيّة، والمذهبيّة، والعشائريّة والعائلية، والمحسوبيات، وضعف مؤسسات الدولة، وغياب الحريات الديمقراطية، والتدخلات الخارجية والتبعية، وانعكاسات الحرب الأهلية على الواقع السياسي اللبناني، وفساد الطبقة السياسية، وضغوط الأوضاع الاقتصادية الخانقة، وانعدام الحس الوطني، وفقدان الشعور بالعدالة والمساواة، وغياب أو ضعف الأحزاب السياسية القادرة على المحاسبة، وغياب المحاسبة الشعبيّة للمسؤولين، وعدم قدرة الشعب على إيصال من يمثله إلى السلطة.
وللخلاص من هذه الآفة، لا بد من اتخاذ حزمة من الإجراءات المتكاملة بدءاً بالإصلاح السياسي في المؤسسة الأم وهي مجلس النواب، وذلك عن طريق إقرار قانون انتخابي عصري يؤمن التمثيل الشعبي الصحيح، والإصلاح الإداري عن طريق كف يد زعماء الطوائف والسياسيين عن التدخل في شؤون الإدارة، وتفعيل هيئات الرقابة والتفتيش والمحاسبة، واستقلالية ونزاهة القضاء، وتعزيز ثقافة المعرفة والحق في المحاسبة، والقبول بالآخر، والتركيز على دور التربية في خلق الحس بالمواطنة، واعتماد مبدأ الكفاءة والنزاهة لدى الموظفين، ومكننة الإدارة، وتطوير القوانين وعصرنتها كي تتماشى ومصالح المواطن وسد حاجاته، وتحرير الدين من التعصب بعدما صادرته الطائفيّة والمذهبيّة، وترسيخ الولاء للدولة القائمة على أسس القانون والعدل والمساواة، أي دولة ديمقراطيّة بالمفهوم الصحيح.
وللوصول إلى هذه الغاية المنشودة، لا بد من أن ينخرط الجميع في عملية الإصلاح المبنيّة على المراقبة والمحاسبة من قبل المجتمع المدني، وتشكيل هيئة وطنيّة لمكافحة الفساد تضم منظمات وأحزاب وجمعيات وفعاليات تعرف بالنزاهة والاستقامة لفضح الفساد والمفسدين، وقيام سلطة أخلاقيّة تحمي المواطن، وتحاسب وتقصي الفاسدين ومخالفي القوانين، وأصحاب الثراء غير المشروع وذلك عن طريق المساءلة، وإحياء مبدأ “من أين لك هذا؟”.
