اقتصاد

الزراعة في لبنان أمام هاوية الدولرة وصعوبات الإنتاج

كتب عماد حلواني

في أسواق المفرق يجد المستهلكون الذين تتراجع مداخيلهم يومياً أن أسعار الفواكه والخضار واللحوم الحمراء والبيضاء والحبوب أبعد من قدراتهم على الشراء. هنا نتحدث عن ارتفاع كل أسعار المواد التي تدخل في الغذاء اليومي ما يجعل المواطنين يعانون من شبه مجاعة بشهادة المنظمات الدولية التي تتحدث في تقاريرها عن عائلات بما فيها من أطفال تنام دون عشاء، أو قلصت عدد وجباتها اليومية. تحدد هذه التقارير حوالي نسبة  77% من المواطنين الذين باتت عملية تدبير أمور معيشتهم اليومية بالغة الصعوبة. لكن ما يلمسه المواطنون هو غلاء أسعار كل الحاجيات من لحوم الدواجن والمواشي إلى أسعار الحبوب والخضار والثمار المنتجة محلياً وليست مستوردة. وهو ما يفتح الباب على موضوع الإنتاج الزراعي بما يعانيه في ظل ظروف أقل ما يقال فيها أنها تسير بسرعة نحو كارثة محققة. فالإنتاج الذي يتم استهلاكه هذا العام، قد لا تتوافر مقومات تكرراه العام المقبل، على ضوء ارتفاع مختلف الأسعار التي تدخل في تأمين عناصره الضرورية. وبالتأكيد يحتاج الوضع إلى جملة دراسات تطال كل فرع من فروع القطاع الزراعي، وهي واسعة وتدخل ليس في الاستهلاك الداخلي فقط، بل وفي عملية التصدير بما تدرِّه من عملات صعبة وسط تحليق سعر صرف الدولار. هنا محاولة أولية لسبر بعض مجالات الإنتاج الزراعي، وهو ما يحدونا إلى توجيه دعوة للمعنيين من مزارعين واقتصاديين ومتابعين ومهتمين بهذا القطاع إلى تعميق مقارباتهم لمعضلاته المتراكمة. و موقع “بيروت الحرية” سيكون مفتوحاً لمثل هذه المساهمات التي تضيء على قطاع لا بد من إنقاذه مهما كان الثمن.  

“بيروت الحرية”

والواقع أن الزراعة  في لبنان تواجه مشاكل مزمنة وقديمة – جديدة. وقد تضاعفت خلال حال الانهيارالراهنة بعد ارتفاع سعر صرف الدولار الاميركي وما رافقه من انخفاض حاد في سعر صرف الليرة اللبنانية، مما حدا بالتجار الى ربط كل متطلبات كلفة الانتاج الزراعي بالدولار الاميركي. وتبدأ هذه من المحروقات وتحديداً مادة المازوت، وهي عصب الانتاج الزراعي لدى المزارعين، مروراً بالأسمدة والشتول والمبيدات وأثمان التجهيزات والمستلزمات وقطع الغيار، وكذلك كلفة الري والنقل وأسعار الصناديق ومتطلبات التعبئة والتغليف وغيرها.

والواقع أن الأزمة المالية المستفحلة لم تؤثر فقط على الأمن الغذائي للمواطنين مزارعين ومستهلكين راهناً من حيث  ارتفاع الأكلاف والاسعار فحسب، لكنها تهدد دون الحؤول لتجديد قدرة لبنان علي انتاج المواد الزراعية الغذائية نفسها، بما هي الفواكه والحبوب والخضار والانتاج الحيواني في العام المقبل.  والواقع أن مستوردي المستلزمات الزراعية يمارسون منذ التسعينيات من القرن المنصرم ضغوطهم المتصاعدة من اجل التوصل الى نموذج انتاجي يعتمد بشكل كبير علي استيراد البذور والشتول والأسمدة والمبيدات وانظمة الري و… وحتي وقت ليس ببعيد استمرت الامور علي هذا النحو مع سياسة مصرف لبنان بتثبيت سعر الصرف. ومعها سياسة القطاع المصرفي التي كانت تفسح المجال امام موردي المستلزمات الزراعية في  الحصول علي تسهيلات ائتمانية، ليقوم هؤلاء بدورهم بتسليف المزارعين ما يستوردونه من مستلزمات حتى بيع المواسم. ولكن هذا النظام انهار الآن، وبات الدفع نقداً لجميع المستلزمات على سعر الصرف المتحرك يومياً من جهة، ومن جهة ثانية حال الوضع دون إمكانية هؤلاء التجار في القيام بتحويلات مالية للشركات الخارجية التي يجري التعامل معها ثمناً للمستوردات. ما يطرح علامات استفهام كبرى حول قدرة لبنان علي الانتاج الزراعي الموسمي للاستهلاك الداخلي وللتصدير الخارجي في الأعوام المقبلة.

الدولرة والانهيار الزاحف

والواقع أن  منتجات الزراعة على تنوعها باتت تخضع لعملية دولرة كاملة وتدفع كلفة الانهيار العام وندرة الطاقة من مصادرها المتنوعة، وهذا ما يجعل كلفة الانتاج الزراعي مرتفعة بالمقارنة  مع الانتاج المنافس للبنان من سوريا الى تركيا ومصر بالاضافة الى الاردن. ومعه بات الانتاج اللبناني  يتخبط في أزمات تسويق  داخلي وتصدير خارجي، مترافقاً مع زيادة الرسوم على مرور الشاحنات اللبنانية والاغلاق الكامل والجزئي للحدود السوريه الاردنية العراقيه. ما شكَّل  ضربة للانتاج الزراعي لجهة تصريفة، ووصوله الي أسواق دول الخليج العربي والعراق. وهو ما انعكس سلباً وكساداً علي أغلب المنتجات الزراعية. ومع أن هذه الأزمة امتدت لسنوات قبل فتح الحدود مجدداً، الا أن ما شهده الاقتصاد اللبناني في السنوات الأخيرة أكمل وضع حبل المشنقة على رقبة هذا القطاع بعموم أقسام منتجاته. فالسوق الداخلية تعاني من تقلص القدرة الشرائية للمواطنين، وقطاع الخدمات كالمطاعم والفنادق الذي كان يصرِّف قسماً من الانتاج قد تهاوى. وتبريد المنتجات انتظاراً لتحسن الأسعار بات شبه متعذر في ضوء ارتفاع ثمن وندرة مادة المازوت. وكي تكتمل الكارثة جاءت ازمة التصدير الزراعي إلى المملكة العربية السعودية في العام الجاري بعد انكشاف عمليات تهريب مخدرات مخبأة في (الرمان وغيره) مصدرة من لبنان. وعلى أثرها اوقفت المملكة السعودية استيراد الانتاج الزراعي اللبناني الى حين ايقاف تهريب المخدرات، وايجاد ضمانات من الحكومه اللبنانية لمكافحة التهريب. وهى ضمانات سياسية وليست اجراءات أمنية معنية بمكافحة التهريب. وحذت معظم الدول العربية الخليجية حذو المملكة، ما قاد إلى مشكلة تصريف حادة لم ينفع في التخفيف من مخاطرها سوى توجه قسم لا بأس به من المنتجات الزراعية نحو السوق العراقية.

ولا تنتهي مشاكل المزارعين عند هذا الحد في ما يتعرض له الانتاج الزراعي، بل يسبقه بأشواط، ويبدأ من ضمان وإيجار الارض للمزارع الذي لا يملك أرضاً لزراعتها. وهنا يجد نفسه إما بين خيار تقاسم الانتاج مع المالك لقاء تقاسم الاكلاف (العمل بالمحاصصة)، أو دفع  مبلغ مالي مقطوع ضماناً للأرض ثم تأمين باقي أكلاف الإنتاج، ما يضع المزارع في مشكلة  تأمين السيولة اللازمة للدفع دون أي ضمانات في جني انتاج يؤمن له أتعابه واسترداد المبالغ المدفوعة. ومع تعذر الحصول على قروض بفوائد مقبولة لشراء المستلزمات الزراعيه على أنواعها يجد المزارع نفسه مجرداً من امتلاك القدرة على دفع متطلبات العمل الزراعي، التي كما أشرنا باتت نقداً وبالعملة الصعبة. ومن المعلوم أن البنوك التجارية ترفض اعطاء المزارعين قروضاً تحت ذريعة عدم توافر ضمانات أو رهن. وما دامت البنوك رفعت يدها عن تأمين السيولة للمزارعين يعمد هؤلاء إلى الاستدانة متى توفرت من شركات  الأدوية، أو عبر صلاتهم الاجتماعية، وهنا يخضعون لإبتزاز الشركات التي تفرض عليهم نوعية أسمدة وأدوية ومبيدات مشكوك بفاعليتها، ومن الممكن أن تتسبب بتلف المحصول، كونها منتهية الصلاحية أو غير مراقبة أصلاً من جانب الوزارة ودوائرها الفنية. وبالطبع فإن خضوع المزارع إلى الحصول على المستلزمات بأسعار مرتفعة  يضاعف من كلفة الانتاج، وهو ما ينعكس على المواطن والمستهلك زيادة في الاسعار التي يلاحظها في تسوقه لحاجات أسرته. وهذا يترافق مع غياب وزارة الزراعة الكلي. فالمساعدات والمواد المدعومة بما هي بعض المبيدات والشتول والأسمدة باتت تخضع للمافيات السياسية – الاقتصادية المقربة من النافذين، ولا يصل منها للمزارع الصغير سوى النزر اليسير هذا اذا وصل. وتتفاقم المشسكلة مع غياب الإرشاد وكذلك مراقبتها للأسعار والنوعية المفروضة من شركات الادوية  لتؤمن الحماية للقطاع الزراعي باكمله. ومثل هذه المشكلات تشمل القطاعات الزراعية كافة من فواكة و خضار وحمضيات الى زراعة الزهور والتبغ والدواجن والمواشي والألبان والأجبان وغيرها.

والواقع أن المعوقات امام المزارعين تبدأ من دولرة الانتاج الزراعي منذ بدء العمل حتى تصريف الإنتاج سواء للتسويق في الداخل التي يخضع فيها المزارع  إلي الابتزاز في سوق الخضار، عندما يسلم محصوله إلى تجار السوق بالأمانة،  حيث يتم التلاعب بالسعر والوزن. كل هذا يحدث دون حد أدنى من الحماية للانتاج اللبناني من المنافسة الاجنيبة، ومعالجة قضية تهريب المخدرات التي  يظهر انها تتم بموجب قرارسياسي، وليس من عمل المهربين المحترفين فقط.

  وتصدير الانتاج الي الخليج رغم أن العراق  شكل حلاً بديلا أمن انفراجاً للسوق، هذا باعتبار أن أسعار الإنتاج الزراعي باتت أرخص مما عليه في دول الجوار نظراً لانخفاض سعر صرف الليرة اللبنانية.

ومشكلة اليد العاملة

 والإنتاج الزراعي مرتبط أساساً بالحاجة إلى اليد العاملة، حيث باتت نادرة  اللبنانية منها نظراً لفقدان الحقوق والأجور الملائمة والضمانات الاجتماعية والصحية التي لا تشمل هذه الفئة من العمال. وتعتبر مشكلة العمالة من القضايا الرئيسية التي تؤخر تطور القطاع الزراعي. وتقدر اليد العاملة اللبنانية بـ 10% من مجموع اليد العاملة في الزراعة فقط. وهي في معظمها على اختلاف جنسياتها لا تملك المهارات العلمية والفنية، بل مجرد خبرة حصلت عليها بالممارسة. وقد استُبدلت  اليد العاملة اللبنانية في المناطق الساحلية في جنوب لبنان وعكار باليد العاملة الفلسطينية، وذلك لقرب المخيمات الفلسطنية من الاراضي الزراعية ( الرشيدية والبص والمية ومية وعين الحلوة والبداوي ونهر البارد). وكونها لا تكفي للأعمال الزراعية الحقلية في الإعداد والقطاف والتوضيب وغيرها، تمت الاستعانة بيد عاملة سورية شكلت البديل، وهي يد عاملة رخيصة نظراً لحالة التهجير التي قذفت أعداداً  اضافية كبرى نحو لبنان ، بأجور يومية منخفضة ومن دون ضمانت صحية أو اجتماعية أو تعويضات، بل مجرد عمل يومي. طبعا هذا الوضع ينطبق علي العامل الفلسطيني أيضاً. وما يسري على منطقتي الجنوب وعكار يسري مثله على منطقتي البقاع والجبل حيث تندر اليد العاملة اللبنانية لصالح اليد العاملة السورية. وقد تطور الأمر ليتجاوز العمالة اليومية في الزرع والنكش والتعشيب والقطاف إلى تخلي المزارعين اللبنانيين في غضون السنوات المنصرمة جراء خسائرهم عن العمل الزراعي برمته، ما قاد إلى دخول فئات من المزارعين السوريين في القطاع. ما يعني أن القطاع كعمال ومزارعين تراجع اللبنانيون عن إشغاله لصالح العمال السوريين والفلسطينيين تقريباً.

وقد استمرت مثل هذه الوضعية حتى الأزمة الحالية، وما رافقها من الارتفاع الحاد في سعر الدولار، ومعه لم يعد المزارع قادراً علي دفع الأجور للعمال السوريين في عدد كبير من المناطق والمؤسسات، حتى أن بعض المزارعين استبدلوا العامل السوري بعامل من بنغلادش أو السودان، الا أن ذلك لم يحل الأزمة. ويعتمد العمل الزراعي في  نظام المحاصصة على جهود العائلة، بمعني أن ياتي المزارع بعائلة سورية كبيرة ويضعهم في ارضه، وهم يتولون زراعتها ويحصدونها، ويعطي لهم المزارع حصة من الإنتاج.

يقود هذا كله إلى النقاش في البحث عن دور الوزارات المعنية من وزارة الزراعة والاقتصاد والداخلية، إذ إن هذه الوزارت لا دور لها في مساعدة المزارعين، علماً أن النقابات الزراعية تاريخياً دعت الدولة لتحمل مسؤولياتها إزاءه. وقد طرحت مؤخراً عبر الاتحاد العام لنقابات  المزارعين والفلاحين التي يرأسها النقيب انطوان حويك تصوراً مبدئياً وحلولاً لمطالب المزارعين عبر مجموعة تصورات تبدأ من انشاء مصرف الإنماء الزراعي وتطبيق الروزنامة الزراعية، وانشاء الصندوق الوطني للضمان من الكوارث الطبيعية، وتنسيب المزارعين إلى الضمان الاجتماعي لتأمين الحماية الاجتماعية والصحية للعاملين في هذا القطاع. ولكن هذه الاقترحات التي عقدت بشأنها اجتماعات لا تعد ولا تحصى مع الوزرات المعنية وفي مجلس النواب، لم تتم الموافقة علي أي من الاقترحات المطروحة، علماً أن العديد منها كان يحظى بالرعاية والدعم من الاتحاد الاوروبي.

الصادرات الزراعية

اذا نظرنا إلى ميزان الصادرات من الإنتاج الزراعي خلال الحرب الاهلية نجد أنه كان مرتفعاً. فعلي سبيل المثال  كان متوسط انتاج التفاح اللبناني يصل إلى9 ملايين صندوق، يصدر منها 50% نحو الأسواق العربية وبعض دول اوروبا والباقي للاستهلاك. وفي سنة  2007 انخفض الإنتاج إلي 4 ملايين صندوق، صدر منها نحو 30%، لكنه عاد للازدهار في سنة 2016 بعد تحسين نوعية الإنتاج اللبناني وإدخال أصناف جديدة من التفاح، مما أدى إلى زيادة كبيرة في الانتاج. لم تقدر الأسواق المحلية أو الخارجية علي استيعابه، فظهرت بعض المبادرات الفردية للاستفادة من هذا الفائض، حيث جري استثمارة في صناعة خل التفاح أو مربي وعصير ودبس التفاح، الا أنها ظلت مبادرات فردية لم تتحول إلى صناعة راسخة الأركان. وفي عام 2020 وصل الإنتاج من التفاح إلى312 ألف طن صدر بمعظمه إلى الخارج نظراً لرخص سعره في الأسواق الخارجية.

وتعتبر الصادرات الزراعية الى دول الخليج العربي هي الرئة التى يتنفس منها المزارع اللبناني. وحسب البيانات الجمركية فالتصدير الي بلدان  الخليج توزع على النحو الآتي:

السعودية بلغت الصادرات لها 50 ألف طن بقيمة 24 مليون دولار.

الكويت بلغت 59 ألف طن  بقيمة 21 مليون دولار.

قطر بلغت 16 ألف طن بقيمة 10 ملايين دولار.

 الامارات  بلغت 31 ألف طن بقيمة 14 مليون دولار.

سلطنة عمان 15 ألف طن بقيمة 16 مليون دولار.

 البحرين بلغت 2.3 ألف طن بقيمة 7 ملايين دولار.

وتفيد الموسسة العامة لتشجيع الاستثمارات في لبنان (ايدال) أن حجم  الصادرات الزراعية إلى دول المنطقة بلغت نسبته 60 % نحو دول الخليج، وترتفع إلى 75% بعد ضم مصر. أما 20% فتذهب منها إلى سوريا و5% إلى اوروبا. ومجموع الصادرات هو 530 ألف طن، تراجعت إلى  285 ألف طن، ثم لأقل من 160 ألف طن حين اقفال الحدود ما بين سوريا والاردن، كما شهدت تراجعاً إضافياً عام 2020 بسبب الاقفال الذي ترافق مع جائحة كورونا. ويعد قطاع الصناعات الغذائية من أكبر الصناعات، وتمثل صادراتة حوالي 18.2% من مجمل الصادرات اللبنانية. وينتج القطاع  حوالي 175 سلعة موزعةعلي منتوجات الألبان والأجبان والطحين والكعك ومنتوجات السكاكر والحلويات والعصائر وشيبس البطاطا والمكسرات والبهارات والخضار والفاكهة الطازجة والمجففة، إضافة إلى صناعة العرق والنبيذ. وكانت قيمة صادرات القطاع في عام 2017 قد وصلت إلى ما مجموعه 500 مليون دولار بارتفاع قدره  2% عن 2016 وحلت الفواكة والخضار في المرتبة الأولى.

رغم الأهمية الكبيرة للصادرات الا أن عدداً من الصناعات لا تعتمد علي المنتوجات الزراعية اللبنانية من الخضار على أصنافها، فالفطر والطحين والزيوت النباتية كلها تعتمد على منتوجات مستوردة إما من تركيا ومصر أو حتي استراليا والمكسيك. كما أن جزءاً من صادرات الألبان والأجبان يعتمد علي الحليب الجاف المستورد، بالإضافة للحليب المهرب من سوريا.

العمل النقابي والمشاريع المرفوضة

إزاء هذا الواقع كانت دوماً هناك مطالبات نقابية بالتصدي لمعضلات القطاع الزراعي وإيلائه الاهتمام الذي يستحق بالنظر إلى وجود كتلة سكانية ريفية تعتاش منه من جهة، ويجب تثبيتها في قراها وبلداتها. ولمساهمته في دعم الاقتصاد الوطني وتعديل العجز في الميزان التجاري بين الاستيراد والتصدير من جهة ثانية. لكن السلطات المتعاقبة لم تقم بما من شأنه وضع هذا القطاع على لائحة الاهتمام، إذ كان دوماً في أسفل برامجها، ما جعل المزارعين يرفعون أصواتهم مراراً وتكراراً مطالبين بلعب وزارة الزراعة دورها المفترض في دعم المزارعين وإرشادهم إلى الطرق الحديثة ومساعدتهم عبر تأمين البذور والشتول المؤصلة ومراقبة جودة الأدوية والأسمدة الزراعية. ولكن رغم محاولات النقابات رفع الصوت لتحقيق مطالبها لم تجد آذاناً صاغية من السلطة. واذا كانت المطالبات لا تعد ولا تحصى نشير إلى  احدي المحاولات المثمرة والتي جرى الارتداد عنها والتي جرت في سنة 1994 في عهد الوزير عادل قرطاس، إذ صدر في حينه مرسوم انشاء مصرف انماء زراعي يكون مصرف فقراء المزارعين والفلاحين مهمتة اعطاء قروض بفائدة متدنية، ليساعد المزارع علي تأمين مصاريف الانتاج كافة بضمان محصوله، وكان يؤمل أن يستفيد منه ما يقارب الـ 240000 ألف مزراع علي كل الاراضي اللبنانية. ورغم ممارسة النقابات الضغوط اللازمة من أجل تطبيق المرسوم، لم يوافق عليه علي مدار سنوات طويلة حتي سنة 2008 علي اثر تقديم كفالات قروض للمزارعين استفاد منها ما يقارب من 5000 مزارع فقط. ثم أعيد طرح المشروع بدعم مالي من الاتحاد الاوروبي بقيمة 4 ملايين يورو كمساهمة وتبرعات. ولكن ذلك لم يطلق المشروع. واستمرت المعاناة حتي  عهد الوزير حسين الحاج حسن الذي حاول تطبيق المشروع لكنه اصطدم في مجلس الوزراء مع الوزير عدنان القصار الذي رفض المشروع برمتة، ووعد باعطاء قروض للمزارعين من البنوك التي يملكها. وبطبيعة الحال لم يحصل احد من المزارعين علي أي قرض لا من بنوكه ولا من سواها.

والأمر لم يقتصر على الحؤول دون تأسيس مصرف زراعي وتسليف المزارعين، فكل المشاريع الزراعية تعرضت للاختناق قبل أن ترى النور. فقد جرى تقديم اقتراح بانشاء سوق لتصريف انتاج الزهور كقطاع واعد له أسواقه الداخلية والعربية ليشكل منافس لأسواق هولندا في لبنان والمنطقة . وفي عهد الرئيس رفيق الحريري تقدمت النقابات الزراعية  بمشروع إقامة سوق دائم للزهور، واحيل المشروع على الوزير علي العبد الله الذى رفضه  لعدم تخصيصه بعمولة مالية. كما ورُفض المشروع أيضاً لأسباب طائفية ومذهبية، حيث اعتبر مستشار الحريري خالد شهاب في حينه أن عدد المزارعين المسيحيين اكثر من المسلمين. كما جري رفض انشاء مختبر لبذور الازهار حتي لا نستوردها من هولندا. ففي قرية العدوسية قرب مدينة صيدا قدمت البلدية  قطعة ارض لإنشاء مختبر زراعي لبذور الازهار والورود، ووصل الاقتراح الي النائب بهيه الحريري التي اعترضت علي المشروع وتم رفضه.

كذلك جرى أيضاً رفض انشاء مختبر  لبذار البطاطا، علماً أن لبنان يستورد سنويا ما بين 30 إلى 50 ألف طن من هذا البذار للموسمين الصيفي والخريفي. ومن شأن هذا المختبر أنه يُمكّن من إنتاج بذورعالية الجودة،  بأسعار متدنية وبالليرة اللبنانية، ويُشغل عدداً كبيراً من المهندسين الزراعيين. وبالتالي يُخفض سعر البطاطا للمستهلك والصناعي اللبناني، ومستقبلاً يصبح قادراً علي زيادة إنتاج البذار وتصديرة الى المحيط العربي والاقليمى، متل تركيا التي تستورد ما يقارب 300 ألف طن من البذار من هولندا سنوياً، مما يقوي الاقتصاد اللبناني، ويرفد الخزينة بعملات صعبة. وقد جري رفض المشروع دعماً لمحتكر استيراد بذور البطاطا انطوان بخعازي.

 هذا الرفض المتكرر لمشاريع كان يمكن أن تكون ذات أفق اقتصادي وتنموي، مرتبطة بتصريف الانتاج الزراعي ومعاناتة المتواصلة من المنافسة الاجنبية. إذ من أبسط واجبات الوزرات المعنية حماية الإنتاج الوطني من منافسة الإنتاج التركي والسوري والاردني، إضافة إلى الإنتاج المصري. ومن ضمن تأمين الحماية وقف عمليات التهريب عبر الحدود البرية والبحرية، وتنفيذ الروزنامة الزراعية بدقة لتنظم مراقبة كميات البضاعة التي تدخل البلد يومياً. ومن باب العلم  فتطبيق الروزنامة الزراعية يخضع لضغوط التجار الذين يصرون على عدم تطبيقها لادخال منتوجات زراعية عربية وغير عربية، طالما تحقق لهم الأرباح الطائلة، ولو على حساب الإنتاج الوطني وتعب المزارع ومستقبل القطاع. 

 وهنا يطرح السؤال حول الكيفية التي يدير لبنان علاقاتة العربية من أجل حماية الإنتاج الزراعي اللبناني من المنافسة الاجنبية والعربية؟

 لقد وافق لبنان علي اتفاقية التيسير العربية التى بُدئ بتنفيذها في العام 2005 وهدفت إلى إزالة الرسوم الجمركية بين الدول الموقعة عليها، وتحرير التبادل التجاري. وتشمل العملية المنتوجات الزراعية. وكانت نتائجها كارثية علي قطاع الإنتاج اللبناني أساساً، لا سيما وأن كلفة الانتاج الزراعي السوري والمصري أقل بـ 50%  من مثيله اللبناني، إذ إن هذه الدول تدعم زراعاتها بالمياه والأسمدة وحوافز التصدير، خلاف ما عليه الوضع في لبنان، حيث تترك الزراعة “سائرة والرب راعيها” دون أدنى مساندة على الصمود.

 كما أن عدم الاهتمام بمشاكل وقضايا المزارعين يتأكد استنتاجه مما أصاب قانون التعويض على المزارعين حين التعرض إلى الكوارث الطبيعية، فقد وصل قانون الصندوق الوطني للضمان من الكوراث الطبيعية إلى لجنة الإدارة والعدل بموجب اقتراح قانون في العام 2005 أيضاً، وأحيل إلى اللجان المشتركة في مجلس النواب، وحتي الآن لم يقر.

ماذا عن العمل التعاوني؟

وتعد التعاونيات الزراعية من الهياكل  الاساسية القادرة علي خلق فرص عمل، وتمكن صغار المزراعين من  من الوصول ألى الأسواق مباشرة ، وتعزز القدرة التفاوضية وتزيد عائدات الإنتاج. وقد ارتفع عدد التعاونيات الزراعية نحو 28 مرة من سنة 1971 لغاية سنة 2017، أي من 45 تعاونية الي 1238. الا أن عدداً قليلاً منها تمكن من استيفاء معايير الجودة المطلوبة للتصدير سواء للمنطقة العربية أوغيرها. فالمواصفات الاوروبية تُبقي القسم الأكبرعاجزاً عن معالجة تحديات المنافسة في السوق وتحقيق مبيعات فعلية، والدخول إلى اسواق جديدة وإقامة روابط مع شركات الصناعات الغذائية بوصفها مصدّرة إلي الأسواق الخارجية

 وقد أشارت العديد من الدراسات إلى  أن تطور التعاونيات الزراعية مرتبط بقدرات الدولة اللبنانية وتطويرها سياسات الحماية للمنتجات الزراعية والحرفية الريفية. وهذا ما حصل في الستينيات إبان العهد الشهابي، الا أنه بعد الحرب الاهلية افتقدت الدولة إلى سياسات انمائية زراعية وريفية، وغابت عمليات الدعم والحماية من الوزرات المعنية ما قاد لانهيار القطاع.

وتشكل التعاونيات الزراعية اطاراً للمساعدة عبر التعاون المشترك بينها ومع النقابات والبلديات للعمل على انشاء مشاريع تنموية بقدرات محدودة، وكيفية المساهمة بين التعاونيين لتأمين المستلزمات الزراعية بسعر أرخص، وإعداد منتجات ذات جودة عالية قادرة على المنافسة، وكذلك إقامة المناسبات الموسمية لتصريف الانتاج محلياً بدل المرور على سلسلة من الوسطاء، ما يجعل السلعة المنتجة تعاونياً مرتفعة الثمن، ويحول دون شرائها من أكثرية المواطنين، خصوصاً في ظروف الانهيار وانخفاض المداخيل والأجور والرواتب.

ورغم الزيادة العددية للتعاونيات الا أن القطاع الزراعي برمته يشهد تراجعاً دراماتيكياً في الناتج المحلي بالقياس إلى باقي القطاعات. إذ لا يشكل القطاع اكثر من 2.5 % من الناتج المحلي الإجمالي. ويكمن السبب وراء ذلك في اعتماد الدولة اللبنانية نظاماً قوامه بشكل رئيسي قطاع الخدمات سواء عبر المؤسسات المالية أو العقارية، بدلاً من اعتماد الاقتصاد الإنتاجي الذى يتشكل من تنمية قطاعات الزراعة والصناعة والحِرف والاستثمارات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة على انواعها.

ولا شك أن المزارع يدفع أكلاف تداعيات الاقتصاد الريعي في يومياتة، ويعجز عن ايجاد حلول لمعضلاته، إذ يُترك وحيدا يصارع طواحين الهواء من دون تدخل أو مساعدة من الدولة. وهو ما سيتضاعف في ضوء حال الشح التي تعاني منها موازنات الوزارات الثانوية كالزراعة وغيرها. 

أما الحلول الترميمية والترقيعية ودعوات زرع الحواكير والشرفات والسطوح وما شابه من “أدبيات سياسية” ، فما هي الا تمييع لواقع انهيار الاقتصاد الزراعي بقطاعاتة كافة. خصوصاً وأن المطلوب من المزارع أن يحفر بالصخر، وهو يفتقد إلى  مضخة المياه والطاقة والآلات والبذور والأسمدة الكيماوية، ناهيك بالحمايات والإرشاد الزراعي والتسليف بفوائد مقبولة… وهذه كلها مفقودة. باختصار ما عرضناه هو غيض من فيض مشكلات هذا القطاع التي تحتاج كل شريحة وفئة منه ( التفاح، البطاطا، القمح، الدواجن، الأبقار الحلوب و..) إلى دراسة قائمة بذاتها، باعتبار أنها جميعاً باتت على حافة التلاشي والاضمحلال في زمن يحتاج الوطن إلى كل “بحصة لإسناد خابية” اقتصاد الانهيار وما يخلفه من معضلات متراكمة على مختلف الصعد في الوقت نفسه.

Leave a Comment