اقتصاد

الحرب الأوكرانية والاحتكارات تُلهب الأسعار وتُضاعف مخاطرالأمن الغذائي

عماد زهير

يتوهم بعض اللبنانيين أن مضاعفات الحرب الروسية على أوكرانيا ستقتصر نتائجها على ارتفاع أسعار الخبز والمحروقات والزيت النباتي والسكر، بينما الفعلي أنها ستطلق أوضاعاً زلزالية تطال مختلف المستلزمات والقطاعات، وتصيب الفئات المتضررة من الانهيار المالي والنقدي بأفدح الأخطار، إلى الحد الذي يجعل المواطنين والمقيمين يترحمون على ما سبق من أزمات، خصوصاً في بلد مكشوف سياسياً على نحو كامل على  المخاطر الاقتصاديّة الخارجيّة، خلافاً للدول التي تملك سلطات مركزية تقوم بواجباتها في حماية مجتمعاتها في هكذا حالات.

والثابت إلى الآن أن التطوّرات المشار إليها، والتي ألهبت أسعار النفط في الأسواق العالمية وقفزت بسعر البرميل الواحد إلى مستويات قياسية  تجاوزت ما بلغته عام 2008 خلال الأزمة الاقتصادية العالمية. لا تزال مرشحة للتصاعد، ومعها سائر أكلاف الإنتاج والاستهلاك، في ظل  مسلسل الأزمات التي تشهدها الساحة اللبنانيّة، وخصوصًا لجهة الضغط على ميزان المدفوعات، وسط ندرة دخول العملات الصعبة إلى البلاد في هذه المرحلة الحسّاسة. وهو ما يطرح الكثير من الأسئلة التي تتناول قدرة المصرف المركزي في الحفاظ على التوازن المختل لسعر العملة المحليّة. وهنا يمكن توقع عودة أسعار صرف الليرة اللبنانية إلى الإنحدار في ضوء ارتفاع أسعار الوقود والمواد الغذائية، وقيام العديد من الدول بمنع تصدير منتجاتها ترقباً لتطورات، خوفاً من تطورات أكثر دراماتيكية، تجعل السوق العالمي يفتقد لسلع تصنف أنها استراتيجية، ولا يمكن التفريط بالمتوافر لديها.

ومما لاشك فيه أن مجمل الأحداث سواء تعلقت بالجانب السياسي أو الاقتصادي، ستترك بصماتها على الميزانيّة العامّة للدولة اللبنانيّة، وعلى قدرة الدولة ممثلة بالمصرف المركزي على الاستمرار بتمويل شراء القمح والمحروقات خصوصاً لحساب مؤسسة كهرباء لبنان، دون أن يلوح في الأفق إمكان الإفادة من صندوق النقد الدولي في ظل عدم القيام بالحد الأدنى من الاصلاح المطلوب.

لقد تجاوز ارتفاع أسعار صفيحة البنزين والمازوت عتبة الـ 450 ألف ليرة، بعد ” بروفة” عودة الطوابير إلى المحطات وظهور المادة في السوق السوداء. الامر الذي أثر سلباً  على أسعار الخبز والمواصلات وسائر مرافق الإنتاج من الصناعي إلى الزراعي والخدماتي،  مما سيكون له مضاعفاته، ارتفاعاً في فواتير الاستهلاك. ما يعني أن معيشة المواطنين والمقيمين ستتراجع أكثر بطبيعة الحال، في ظل تهاوي قدرتهم الشرائيّة المتهالكة أصلا، والناجمة عن تدني الأجور والمداخيل والبطالة وأزمة سعر الصرف ورفع الدعم عن المواد الأساسيّة، وخصوصاً أن المحروقات هي مادة محركة للأسعار في مختلف المجالات.

المحروقات تستنزف الدولارات الباقية

خلال العام الماضي، احتاج لبنان إلى ما يقارب الـ  3.35 مليارات دولار من العملة الصعبة لتغطية فاتورة استيراد المحروقات من الخارج. في الوقت الذي بلغ فيه سعر برميل نفط خام برنت حدود الـ 70.68 دولاراً كمتوسّط سنوي. الآن تضاعف سعر برميل النفط تقريباً، ويمكن أن يرتفع أكثر، ومعه ستتضاعف الحاجة إلى العملة الصعبة لتأمين الاستيراد   في ظل تراجع  توفر السلع في أسواق العرض.  وبما أن قيمة فاتورة المحروقات المستوردة قد بلغت في العام 2021 ما يوازي نحو 28% من قيمة احتياطات المصرف المركزي المتبقية بالعملة الصعبة،  يصبح المطلوب منه لتامين السلعة ضعف ما دفعه سابقا. مضافاً إليها العوامل الداخلية المرافقة للارتفاعات الأصلية بفعل فوضى السوق المحلية ودخول الاحتكارات والمافيات على خط الأزمة، وضعف وهزال أجهزة الرقابة والضبط.

الآن، يتابع المصرف المركزي إحالة مستوردي البنزين وباقي المشتقات البترولية ( فيول أويل ومازوت وزيت سيارات وغاز منزلي ) على منصّة صيرفة للتداول بالعملات الأجنبيّة  لتأمين حاجتهم للدولار، فيما يقوم بالتدخّل بما لديه من احتياطات العملة الصعبة المتوافرة لتقليص الضغط على سعر صرف الليرة في السوق الموازية.

بمعنى آخر، ونتيجة ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانيّة، بات أي ارتفاع في أسعار المحروقات بالعملة الصعبة،  يترك آثاراً أقسى على جدول الاسعار بالعملة المحليّة في السوق المحلية، كذلك على اكلاف المواصلات العامة وسائر المصارفات الحياتية العامة. وفي ظل التقنين القاسي لمؤسسة كهرباء لبنان لأكثر من 20 ساعة في اليوم الواحد، فمن المرتقب أن ترتفع أسعار اشتراكات المولدات، بالتوازي مع ارتفاع سعر المازوت  الذي تجاوز مؤخراً في السوق الفعلي حدود الألف ومائة دولار للطن الواحد. ما دفع بأصحاب المولدات في العديد من المناطق إلى إطفاء محركاتهم. ومرّة جديدة، ونتيجة تدنّي قيمة الليرة اللبنانيّة مقابل الدولار، سيكون لهذه التطوّرات آثار مضاعفة على مستوى القدرة الشرائيّة للمواطنين والمقيمين. ولن تنجو من هذا الوضع قطاعات الإنتاج، اذ من شأن الارتفاعات المتوقعة مضاعفة كلفة الإنتاج والنقل، ما سينعكس على حركة أسعار السلع، ويضاعف من تقليص الإنتاج وقدرة الناس على الاستهلاك.

وارتفاع أسعار المحروقات، سيكون تأثيره مباشر على الميزانيّة العامّة للدولة اللبنانيّة. فكما هو معروف، يستنزف تمويل الدولة لعمليات شراء الفيول أويل لمؤسسة كهرباء لبنان نحو نصف العجز في الميزانيّة العامّة، وهو ما كبّد الدولة نحو 686 مليون دولار كمعدّل سنوي خلال العام الماضي. وهكذا، من المرتقب أن ترتفع كلفة تأمين الفيول لمؤسسة كهرباء لبنان، بالتوازي مع ارتفاع كلفة استيراد المحروقات، ما سيعني ارتفاع معدلات العجز في الميزانيّة العامّة، وبالتالي المزيد من تراجع الليرة.

ماذا عن الخبز والزيت والسكر؟

تعتمد الكثير من الأسر على الخبز في استهلاكها اليومي، خصوصاً مع ارتفاع أسعار الأرز والبرغل والبطاطا وسائر النشويات. إذ كلما تراجع الوضع المعيشي تضاعف الإتكال على الخبز لتعويض نقص العناصر الغذائية المشابهة. بالطبع ما إن اندلعت الحرب بين روسيا وأوكرانيا حتى ارتفع الصوت من آثارها على المخزون من هذه المادة. خصوصاً وأن اهراءات العاصمة دُمرت منذ آب العام 2020، وما تزال البلاد من دون صوامع تؤمن مخزونات لفترة متوسطة الأجل. وتبعاً لما يذكره وزير الاقتصاد فالقمح المتوافر في البلاد يكفي لمدة شهر أو شهر ونصف، وبعده يحدث الإنكشاف الغذائي نتيجة نقص القمح وبالتالي الطحين. علماً أن الأسعار الرائجة حالياً، زادت بنسبة أكثر من 30% عما كانت تُباع به قبل الأزمة، ويمكن لها أن ترتفع قريباً أكثر في الأسواق العالمية.

ومن المعروف أن المصرف المركزي ما يزال حتّى اللحظة يؤمّن الدعم لشراء القمح من احتياطات العملة الصعبة الموجودة لديه، ما فرض عليه تأمين الدولار المطلوب للمستوردين بسعر الصرف الرسمي القديم المنخفض. ولهذا السبب بالتحديد، فإن الزيادات الجنونيّة في أسعار القمح العالميّة  ستنعكس مزيداً من التراجع في أموال الاحتياط من العملة الصعبة المتبقية لديه، والتي تمثّل حاليّاً آخر ما تبقى من أموال المودعين التي وضعتها المصارف في المصرف المركزي.

ومن المعروف أن لبنان يعتمد على  نحو 60% من استهلاكه من القمح على ما يستورده من أوكرانيا، كما تبين من السنوات السابقة. أما القسم المتبقي فيحصل عليه من روسيا وكندا وغيرهما. لكن ما يتوجب التوقف عنده أن كل استيراد اضافي سيكلف ما يتجاوز الأسعار الرائجة دولياً، إذ لا بد وأن يضاف إليه كلفة الشحن والتأمين التي تضاعفت مؤخراً وغيرها، هذا في حال توافر المادة في الأسواق العالمية لتأمين الاستهلاك، ما يؤشر أن المخاطر المحتملة تفوق ما هو متوقع  ومُعلن، في وقت تحاول المطاحن والوزارات المعنية، إيجاد طرق للتقليل من حجمها قدر الإمكان. وآخر الخطوات هي “الاتفاق بين تجمع المطاحن في لبنان ووزراء الاقتصاد والتجارة والصناعة والزراعة، على حصر تسليم الطحين المخصص لصناعة الخبز العربي إلى الأفران، وذلك من أجل الاستمرار في إنتاج هذا النوع من الطحين لأكبر فترة ممكنة.” أي أن أفران صناعة المعجنات ومعامل الحلوى والمواد الغذائية التي تدخل فيها مادة الطحين، ستكون محرومة من الحصول على هذه المادة كما جرت العادة. أي أن الطحين سيتوجه حصراً نحو الخبز العربي دون سواه .

بدوره، لم يدخل الزيت بعد مرحلة شحّ الكميات، لكن التجّار بادروا إلى رفع أسعاره، وقنّنوا توزيعه، وهو ما يظهرَ بوضوح في عدد كبير من محال السوبرماركت التي فرغت رفوفها منه. واختلفت الأسعار كثيراً. إذ إن بعض الماركات ارتفع سعرها 100 ألف ليرة للغالون الواحد سعة 5 ليتر. أما السّكر الذي بات سعر الكلغ الواحد منه في حدود الـ 30 ألف ليرة،  فيشكّل مادة أولية للكثير من الصناعات الغذائية. ويستهلك لبنان نحو 120 ألف طن سنوياً، جلّها يأتي من الجزائر التي فرضت مؤخّراً حظراً على تصدير هذه المادة خارج حدودها، ما دفع المسؤولين إلى البحث عن أسواق أخرى. ومن المعلوم أن الاستهلاك المحلي يتضاعف في شهر رمضان المقبل، ما يعني ندرة السلعة في الأسواق. وشمل ارتفاع الأسعار الأجبان والألبان بنحو 10 إلى 15 بالمئة. كما أن باقي السلع تشهد ارتفاعات متتالية.

الأمن الغذائي المكشوف

يعبر مثل هذا الوضع عن انكشاف الأمن الغذائي اللبناني. لكن الأفدح أن المنطقة  العربية بأسرها تعيش مثل هذا الوضع. فقد كشف الأمين العام لاتحاد المصارف العربية، وسام فتوح، أنه “مع اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية، وفرض عقوبات متزايدة وشديدة من قبل الدول الغربية على روسيا، واحتمال توقف صادرات هاتين الدولتين إلى الخارج، ومنها صادرات الحبوب، تتزايد المخاوف من تداعيات تلك الأزمة على الأمن الغذائي في الدول العربية تحديداً، بسبب اعتماد عدد كبير منها، على واردات الحبوب من كل من أوكرانيا وروسيا”.  هذا ما أكدته دراسة أعدها اتحاد المصارف العربية، بأن الدول العربية ت استوردت  نحو 13.165 مليون طن من القمح من روسيا (بتكلفة 2.847 مليار دولار) ونحو 7.598 مليون طن من أوكرانيا (بتكلفة 1.527 مليار دولار) عام 2020.

ورأى فتوح أن هذه الأزمة تظهر حاجة الدول العربية  الملحّة إلى تعزيز الأمن الغذائي ذاتياً، عبر الاستثمار في مشاريع زراعية عربية مشتركة، وذلك في ظل وجود فوائض مالية ضخمة، وأراض شاسعة قابلة للزراعة على امتداد الوطن العربي. الأمر الذي سبق  وأكدته العديد من المؤسسات والدراسات منذ عقود طويلة، ولكن على من تُتلى مزامير داود في ظل سلطات وسياسات أقل ما يقال فيها أنها لا تفكر سوى بالربح السريع فقط لاغير … وبعدها لا بأس من تجويع الناس أمام أي حال طوارئ محلية أو دولية.

Leave a Comment