محسن إبراهيم

البدرُ المُفتَقَد لا الفقيد

اميل منعم*

الآن، ونحن نخوض في العجز، تحلّ علينا ذكراك بألم ومشقة. لن تكون مناسبةً لنجدد فيها الوفاء لما مضى من الصور البهية في مكافحة الشقاء. بل تطل علينا، كما كان دأبك طيلة أيامك، لتزوّدنا من جديد بما تيسّر من سُورة التمرد. ولتقترح علينا السُبلَ وتجرّ محصول الكفاح الى الطواحين. فالخصيب لا يصبح ماضياً. يمكن للأرض أن تُجدِب تحت أقدام العبيد، كما يمكن للينابيع أن تعرفَ الشحّ، حين ترتدّ عنها الشفاه الظمأى إلى الحرية. ولكن الخصوبة تتعرف على نفسها في الأماكن التي قد لا يتوقّعها أحد. حيث هناك دائماً، من درج على خطاك، وتعلّم كيف يعجن الغيوم بيديه، ويجمع حبات المطر قطرةً قطرةً ويؤلف للطوفان نشيده الملحمي.

سيأتي الطوفان ولن تكون ماضياً. ولن نتذكرك صورةً في إطار، بل موجة عارمة لا يسلم في معمعانها إطارٌ ولا صورةٌ ولا ايّ مشهد من مشاهد العبث.

تحلّ علينا ذكراك والعجز يسدّ الأفق على كل إشارة مضيئة، وينسدل على كل مسعى.

العجز عن تكميم أفواه اللبنانيين دون صرخة بؤسهم.

ولكن أيضاً العجز عن إنقاذ حاضرهم بمراهم الماضي.

العجز عن محو فلسطين شعباً وقضيةً.

وأيضاً عجز العالم بأسره عن تأمين أسرّة لأحلام أطفالها.

العجز عن منع أجيالٍ، في هذه البقعة من العالم، من تربية الأمل ربيعاً تلو ربيع.

وأيضاً العجز عن الإفساح لمستقبل تُزهر فيه أحلام هذه الأجيال، وتخرج إلى الضوء من صدوع التخلف والاستبداد.

هو نفسه عجزك عن الغياب.

هو نفسه عجزنا عن وداعك.

لن تمضي، وقد وقفت تحت الربح بقليل، فوق الخسارة بقليل، وعرفت كيف توجه محراثك لتشقّ الوعر وتُخصِّبه بالمعاني. وكيف بقليل من زيت المحابر، وبحفنة من ورق الحنطة، فرشت مائدة عامرة لمقاومي التدجين من أي صنف، ولمحاربي التطبيع مع القهر والمهانة واغتصاب العدالة. واجترحت أقلاماً مبريّة كالشعاع للتائقين إلى الصيد في  براري العالم المشطور.

كنت موعوداً وأضحيت وعداً، وبدراً مُفتَقَداً في ليل المحنة الطويل.

يا رفيق محسن، في دورة الأرض، لا يصبح الخصيب ماضياً. العقيم وحده يمتصه الجفاف وتهجره الطيور إلى ربيعها الموعود. وأنت، السياسي بامتياز، مورقُ الأحلام ومشذِّب الأسئلة ومُخصِّبُ الأفكار. ستبقى على غرّة الزمان الولود، حين تكون حاجة الخروج على العجز، شرط وجود وبقاء.

لقد أدرك العجزُ من سخر من البرهة البراقة التي قادت خطانا في الشوارع أيام كنت تتجلى. ففاته أن السياسة ليست بالضرورة مهنة أصحاب الحوانيت. وأن شرف أن تكون سياسياً هو شرف من يقبض على مصيره بيديه. لقد أدرك العجزَ جيلٌ لم تسعفه الحياة العقيمة التي تدبرت نشأته وصاغت رؤاه، ليدرك أن السياسة ليست ما يمليه الرُعاة على القطعان. بل لها أن تكون ما يهديه الحر إلى الحر من صيغ الحياة الفضلى. بل لها أن تكون آلة اشتغال الحرية ورافعتها. والعارضة الراسخة عند تبدُّل الأبواب والمصاريع.

السياسة التي هي جدل الربح والخسارة، جدل الأخذ والعطاء، جدل الواقع والخيال، جدل الصواب والخطأ، عندما تفقد جدليتها ينهض العجز. فالعجز ليس قدراً، بل هو انغلاق المعاني على ذاتها فتأسر كل حركة أو جهد في دواماتها العقيمة.

عندما يتعثر إدراك السياسة، ويصبح الترفع عنها شيمة الممارسة السياسية، سيضيق المسرح بمن يرفعون شارة النصر فوق الحطام، وبمن يسترون مكائدهم تحت صلوات العبيد.

تحل ذكراك لتُشعل فينا من جديد هذا السؤال الكبير: كيف السبيل لتستعيد السياسة معانيها فتستعيدك الأجيال من ركام خسائرها الكثيرة؟

  • إميل منعم ـ مخرج وفنان لبناني

Leave a Comment