زهير هواري
عاد وفد صندوق النقد أدراجه دون أن يلمس لدى المسؤولين اللبنانيين حداً أدنى من الالتزام بما جرى التوصل إليه مع الحكومة اللبنانية عندما وقع معها على “اتفاق الموظفين”، الذي يعتبر مؤشراً وإن كان غير ملزم على التوجه نحو مساعدة لبنان في حال تجاوبه مع الشروط المطلوبة منه، لتقديمه قرضاً بقيمة 3 مليارات دولار، على أن تؤمن الدولة اللبنانية مقابلها 7 مليارات- وهو ما لا يشير إليه المسؤولون- يمكن الانطلاق منها نحو رحلة إعادة التعافي للاقتصاد اللبناني.
والبيان الذي أصدره وفد الصندوق بعد لقائه مع العديد من المسؤولين يعتبر بمثابة ” مظبطة اتهام” تتراوح بين اللغة الدبلوماسية على جاري الهيئات الدولية، واللغة القاسية التي لا بد منها أمام مركب بلاد تغرق، دون أن تبادر الطبقة السياسية والمالية الممسكة بخناقها إلى أي عملية انقاذية ملموسة. أكثر من ذلك عندما تضطر السلطات إلى مقاربة أي خطوة مطلوبة تقوم بتفريغها من محتواها الفعلي، بالنظر إلى تضارب مصالحها كطبقة مافياوية، مع ما هو مطلوب منها في ظل أوضاع حرجة وبالغة الدقة، ليس فقط على الصعيد المالي والنقدي بل على المستوى الاجتماعي المعيشي بعد أن بات 80 % من اللبنانيين تحت خط الفقر، وانكمش الاقتصاد اللبناني بما نسبته 40 % عما كان عليه قبل عدة سنوات، ولهذا كله نتائجه على صعيد العمل والبطالة والمداخيل وقيمة النقد الوطني وانهيار الخدمات العامة وما إليها.
اذن غادرت بعثة صندوق النقد العاصمة بيروت، بعد أنّ اكتشفت بالملموس أن لبنان لم ينفّذ خلال الأشهر الخمسة المنصرمة على توقيع الاتفاق المبدئي أبسط الشروط التي تضمنها، ما يعني أن البعثة لم تتسلم ما يعتبر بمثابة مستند يمكن تقديمه إلى إدارة الصندوق العليا. ومن المعلوم أن تلك الإدارة تعقد اجتماعها في العاشر من تشرين الأوّل المقبل، أي بعد أقل من عشرين يوماً. بينما كان مخططها أن تطرح طلب برنامج القرض الخاص بلبنان في ذلك الوقت عبر ملف مكتمل العناصر، بما يسهل المطالبة بتوفير مبلغ المليارات الثلاثة عبر أقساط على مدى ثلاثة سنوات.
على أي حال لا يُقرأ بيان الوفد بمعزل عما سبقه من مواقف أعلنها الصندوق نفسه، حيال أداء المسؤولين وإدارتهم للأزمة المتفاقمة. وعليه لم يكن غريباً عنه تلك اللهجة القاسية في تحميل المسؤوليّة للطبقة السياسية والمالية عن حالة الركود القاسية، وأكلافها على المستويين الاجتماعي والاقتصادي. وهو يلمس مواصلتها المراوغة عملياً في القيام بالحد الأدنى من الاصلاحات الاضطرارية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وسط انسداد الأبواب والنوافذ أمام أي مخرج آخر فعلي من الحال التي بلغها الاقتصاد اللبناني.
يعبر الصندوق عن استيائه من البطء في تنفيذ غالبية الإصلاحات المتفق عليها، بموجب نص الاتفاقيّة على مستوى الموظفين في نيسان الماضي. وبالنظر إلى هذا الوضع “ما يزال الاقتصاد اللبناني يعاني من الركود الشديد، في ظل استمرار حالة الجمود في ما يخص الإصلاحات الاقتصاديّة، التي تشتد الحاجة إليها”. ويلخص البيان كلفة عرقلة هذه الإصلاحات: “انكماش الناتج المحلّي بنسبة تجاوزت 40% منذ العام 2018، وتسجيل معدّلات تضخّم من ثلاثة أرقام، وتَواصل استنزاف احتياطات مصرف لبنان، بالإضافة إلى استمرار ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة، والذي تجاوز حدود الـ 38 ألف ليرة. يجري هذا “وسط انهيار الإيرادات والإنفاق المنكمش بشكل كبير، ما نجم عنه فشل مؤسسات القطاع العام، وانقطاع الخدمات الأساسية للسكان، فيما سجّلت البطالة والفقر معدلات عالية وقياسيّة”. وانطلاقاً من ذلك يجزم بأن هذا التأخر “يساهم في زيادة أكلاف الأزمة على البلاد والسكّان، فيما يُفترض أن ينفّذ لبنان هذه الإجراءات قبل تقديم طلب انخراطه في برنامج مالي مع الصندوق”.
ويشدد البيان على نقطة بالغة الأهميّة، وهي ضرورة تحديد ومعالجة خسائر القطاع المصرفيّ بصورة عاجلة، مع احترام تراتبيّة الحقوق والمطالب (أي البدء بشطب الرساميل قبل تحميل المودعين أي خسارة). وأهمية حماية أصحاب الودائع الصغيرة في إطار أي عمليّة لإعادة هيكلة للقطاع المصرفي، مع الحد من استعمال المال العام وأملاك الدولة في هذا المسار، بما يسمح بإفادة جميع اللبنانيين من هذه الأموال والأملاك، بمعزل عما إذا كانوا مودعين أو لا. بالطبع فقرة من هذا النوع تستهدف خصوصاً جمعية المصارف وخطتها للتعافي، والتي تضع العراقيل و”الفيتوات” على محاولات تحميلها ثمن أخطائها في إدارة أموال المودعين، وفتح الحسابات لاستدانة الدولة دون ادراك مخاطر هذا الطريق على الودائع والاقتصاد برمته. وهي خطوة اعتمدها القطاع المصرفي لما تدره من أرباح بمثابة فوائد غير مسبوقة عالمياً، بالنظر إلى الشراكة والمصالح المشتركة بينه وبين الطبقة السياسية الحاكمة.
الجانب الموازي يتمثل باقرار موازنة العام 2022 التي باتت في نهايتها تقريباً – هذا اذا أقرت-. فالمجلس النيابي ناقش بعض بنودها، ولكنه لم يقرها حتى تاريخه، بينما الطبيعي كان أن يشرع في دراسة موازنة العام 2023. وقد فشلت محاولات تمريرها من جانب الحكومة و”أسكت رئيس المجلس وزير المال ولم يسمح له بمتابعة كلمته” أمام النواب، بينما تأجلت الجلسة إلى أوآخر الشهر الجاري دون أن يبدو في الأفق ما يشير إلى سلاسة الإقرار. يشترط الصندوق في إعداد واقرار ميزانيّة العام 2023، أن تستند على افتراضات واقعيّة للاقتصاد الكلّي، وأن تعتمد التدابير اللازمة لزيادة الإيرادات، مع استخدام سعر صرف واقعي للجباية، يمكن أن يكون سعر منصّة صيرفة الذي يجب أن يصبح سعر السوق بعد توحيد سعر الصرف. وهو ما من شأنه أن يسمح بزيادة في الإنفاق الاجتماعي والاستثماري، لإعادة تشغيل العمل الأساسي للإدارة العامة، في وقت تختفي فيه الخدمات العامة مع ما يرافقه من تأثير سلبي ملحوظ على تحصيل الإيرادات. وكانت أبرز المشكلات التي واجهت النقاش في جلسات الموازنة تكمن في أمرين أحدهما سعر صرف الدولار، بعد أن باتت كل الخدمات تحتسب على سعر صرفه في السوق الموازية، وبما يتجاوز سعر منصة صيرفة بنسبة كبيرة، ويرتبط بذلك أيضاً مسألة الدولار الجمركي والذي تفاوتت الآراء بشأنه بين سعر 12 أو 15 ألف ليرة و18 ألفاً، وسعر المنصة أو ما دونه بقليل. وهو ما اعترض عليه التجار بطبيعة الحال. أيضا صوَّب الصندوق على سياسة مصرف لبنان النقدية لجهة تعددية أسعار الصرف، ما يقود إلى اختلالات عميقة في النشاط الاقتصادي، ويقوض ما تبقى من عمل القطاع العام، ويؤدي إلى ضغوط متصاعدة على احتياطيات العملات الأجنبية في المصرف المركزي”. ولهذا السبب، يدعو الصندوق للعودة إلى اعتماد قانون للكابيتال كونترول، ويصفه بأنه أمر “بالغ الأهمية لمعالجة هذه القضايا، وتقليل الضغوط على احتياطيات المصرف المركزي من العملات الأجنبية”. ويأخذ على مصرف لبنان تدخله في سوق أسعار الصرف في ظل غياب الاصلاحات المطلوبة. ومن المعروف أن الصندوق أكد في مواقفه على أهمية الانتقال إلى سعر صرف موحد، وهو ما لم يحدث من قريب أو بعيد. بالطبع أعاد الصندوق التذكير بما سبق وتوقف عنده في مذكرة منفصلة حول تعديلات المجلس النيابي على قانون السرية المصرفية ورآها غير كافية. معلناً ترحيبه بمراجعة البرلمان للقانون لجهة سد الثغرات التي تجعله قاصراً عن مكافحة الفساد، وإزالة العوائق التي تحول دون الإشراف الفعال على القطاع المصرفي وإعادة الهيكلة، وإدارة الضرائب، وكذلك التحقيق في الجرائم المالية واستعادة الأصول المختلسة. وهو ما دفع رئيس الجمهورية إلى رفض التوقيع عليه، و رد القانون إلى المجلس النيابي.
وخلال زيارته إلى نيويورك لإلقاء كلمة لبنان امام اجتماع الأمم المتحدة سمع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ما يشبه التنبيه لإمكانية فوات الفرصة، إذ أكدت المدير العام لصندوق النقد الدولي كريستينا جورجيفا “حرص صندوق النقد على إنجاز الاتفاق النهائي مع لبنان في أسرع وقت، واستكمال الخطوات المطلوبة لبنانياً، وهي إقرار المشاريع الإصلاحية في مجلس النواب، ومعالجة موضوع سعر الصرف”، كما عبرت عن استمرار الاهتمام الدولي بلبنان، ولكن “ينبغي الإسراع بتنفيذ الخطوات المطلوبة من لبنان، لأن الوقت بات داهماً في ضوء الركود الاقتصادي في العالم، والمخاوف من صعوبات عالمية في مجال الطاقة وتوريد المنتجات الاستهلاكية”. هذه النتيجة التي تعيد على أسماع ميقاتي ما قالته وفود الصندوق له في السراي الحكومي، لكن ذلك لم يمنعه من محاولة الالتفاف على ما تكرر سماعه، من خلال مخاطبة رؤساء الدول وقادة العالم عندما اعتلى المنبر لإلقاء كلمة لبنان، علماً أن العديدين منهم كانوا قد أعادوه إلى المفاوضات والاتفاق على الاصلاحات مع صندوق النقد. ما يؤشر إلى حلقة مفرغة يدور في قاعها لبنان دون أمل بالخروج من جهنميتها القاتلة.
نشير إلى مسألة جوهرية وردت في بيان ختام الزيارة حول كيفيّة إعادة هيكلة المصارف، وعدم ربط الخسائر المصرفيّة بالميزانيّة العامّة. وفي الخلاصة، شدّد البيان على أنّ تنفيذ البنود المذكورة في الاتفاقيّة على مستوى الموظفين يمثّل شرطاً مسبقاً، قبل طرح ملف لبنان على مجلس مديري الصندوق، ما يعني أنّ البعثة لن تطرح ملف لبنان على المجلس خلال اجتماعاته المقبلة. وفي مثل هذا الوضع ليس غريباً أن يتحدث بعض الاقتصاديين عن سعر صرف لليرة مقابل الدولار من ستة أصفار، وعندها يكون الأوان قد فات، وتضاعفت وتيرة الخراب وسط تناتش الطبقة السياسية المالية ما تبقى من الدولة – الغنيمة.
Leave a Comment