اقتصاد

أوضاع مزارعي التبغ بين مطرقة الريجي وسندان نقابة السلطة !

كتب عبد الله سرور

يعاني مزارعو التبغ حالياً من أزمات متداخلة وهم يشهدون على مصيرهم البائس، الذي تلعب فيه شركة الريجي دور المطرقة، أما السندان فتمارسه نقابة مزارعي التبغ الملحقة عملياً بسلطة الأمر الواقع معطوفة على العلاقات المتينة القائمة بين الريجي وهذه السلطة في أعلى الهرم واسفله.  وقد قاد مثل هذا الوضع إلى تقليص حجم الإنتاج الجنوبي من 9 ملايين كليوغرام سنويا إلى 5 ملايين حاليا. حدث ذلك  بعد إقتطاع قسم من التراخيص جنوبا وإعطائها لمزارعي الحشيشة بقاعا. ويوجد حاليا ما بين 15 ألف و 16 ألف دونم مرخصة. وفي البقاع وعكار هناك حوالي 9 آلاف دونم مرخصة لزراعة التنباك. ويحصد  المزارعون حاليا ومع إستفحال الأزمة الكارثية التي تسببت بها سلطة الفساد في البلاد وإنهيار قيمة العملة الوطنية مقابل سعر الدولار وغلاء تكاليف الزراعة كما المعيشة من أوضاع بالغة التردي بالنظر إلى  ضآلة المدخول من مصدر رزقهم الرئيس بما هو زراعة الدخان. أو لعدم التمكن من دفع أكلاف الزراعة الباهظة. العام الماضي  جرى التحايل عليهم من خلال زيادة وهمية بمثابة مساعدة إجتماعية لا تدخل في صلب السعر الرسمي “البريم” وهي تعادل نصف ماحصلوا عليه زيادة على أسعار العام الأسبق. وعند إحتساب هذه الزيادة تكون خسارة المزارع أكثر من نصف ما أخذه العام الفائت. والآن يعيش المزارعون في حيرة من أمرهم، العديد منهم يتجه نحو الاقلاع  عن زراعة التبغ، واستبدالها بالحبوب وبعض الخضار التي تناسب الأراضي غير  المروية. والجديد أن إدارة الريجي ابلغتهم أنها لن تقدم لهم الخيش لتوضيب وتغليف الإنتاج، ولا أي من الأدوية الزراعية التي كانت تقدمها قبلاً، والأسوأ من ذلك كله أنهم حتى تاريخه لا يعرفون بعد ما سوف يتقرر على صعيد الأسعار. علماً أن هناك مفاوضات تجري بين إدارة الريجي ووزارة المالية بهذا الشأن لن تكون نتائجها إيجابية لمصلحة المزارعين.

موقع التبع في الإقتصاد الوطني

كانت زراعة التبغ تحتل الموقع الرئيسي لمعيشة نسبة عالية من سكان الجنوب، وتلبي إحتياجاتهم بالحد الأدنى في التعليم والإستشفاء وسائر  الإحتياجات الضرورية مع التفاوت في المداخيل بين مزارع وآخر. كما أن الريجي من خلال بيع المحاصيل للخارج (شركة فيليب موريس) كانت تؤمن نقدا صعبا لخزينة الدولة، عدا  تأمين عدد من الوظائف في الشركة. أما الآن ورغم تقلص نسب الزراعة لا تزال تشكل مدخولا رئيسيا نسبياً للعائلات الفقيرة، مضافة إلى مداخيل أخرى تتأتى من بعض المهن المتواضعة والمصالح الصغيرة أو على شكل مساعدات ترد من الأبناء والأقارب المهجريين. كذلك تشكل هذه الزراعة رغم ما شابها من تغيرات دعما للإقتصاد الوطني من خلال بيع المحاصيل للخارج وإدخال العملة الصعبة للمالية العامة. وحالياً، ومنذ سنوات قليلة قامت الريجي بالحصول على العديد من الوكالات لتصنيع التبغ الأجنبي في لبنان. وهو ما أحدث نقلة نوعية في مداخيل الشركة، وبالتالي الإقتصاد الوطني مع تقلص فاتورة الشراء للتبوغ الأجنبية بالعملة الصعبة. وبالتالي تضاعفت ربحية الريجي كثيرا ما سمح بادخال الكثير من الموظفين والعمال في هذه الصناعة، رغم السمة العامة من أنه توظيف عشوائي ورشاوى إنتخابية. لكن المفارقة أنه بدل أن تنعكس هذه التطورات التي طرأت على الريجي إيجابا نحو  تحسين الوضع المعيشي للمزارعين وللدخل الوطني، ظلت في الحدود الدنيا لوقوعها في قبضة طرف سياسي مهيمن على مقدراتها ومستعملاً هذه المقدرات لجني الأرباح لمصالحه الفئوية ومنافعه الإنتخابية. لاسيما وأنها باتت الرئة شبه الوحيدة المتبقية حاليا للصرف السياسي، تنفيعات للمحاسيب ومساعدات في أكثر من منطقة لمشاريع لا علاقة لها بالزراعة أو المزارعين. وكثير من الوكالات الأجنبية التي تصنع سجائرها حالياً في شركة الريجي مُحتكر لدى هذه الجهة السياسية باعتبارها المستفيد الأول.  وقد قامت هذه الجهة السياسية بإعادة نظر بموضوع الرخص الممنوحة تاريخياً للمزارعين إذ قضت على الرخص المتوسطة التي كانت تملكها عائلات كثيرة. و إشترت أكثرها من الإقطاع السياسي. أما الأسر التي تعتاش من زرعة التبغ فتعمل طيلة العام لتأمين إحتياجاتها الضرورية.  في المقابل أبقت بعض الرخص المتوسطة للمحاسيب. أما الرخص الصغيرة فقد جرى توزيعها على فقراء المزارعين حسب الولاء السياسي (بين 2 إلى 4 دونم للعائلة) ويبقى على هؤلاء لتأمين مقومات عيشهم ضمان رخص ممن يملكون ولا يزرعون.

وضمن هذا السياق من وضع اليد، تمَ إلغاء كل المكاسب التي حققها المزارعون بنضالهم الطويل وبقيادة النقابة السابقة وهي كالتالي:

1-عدم إستلام محصول الدونم الواحد لأكثر من 100 كيلوغرام فقط، بينما في السابق فرضت نقابة مزارعي التبغ في الجنوب أن يتم إستلام كامل محصول الدونم حتى لو كان لأكثر من 300 كليوغرام.

2- عدم رفع نسبة الأسعار سنويا حسب كلفة الإنتاج وغلاء المعيشة.

3- التملص من مكسب فرضته النقابة السابقة،  يتعلق بوجود خبير من المزارعين تنتدبه النقابة مقابل خبير الريجي عند إستلام المحاصيل.

4-  عدم تأمين كل ما يلزم من أدوية زراعية وخيش لتغليف المحصول  عند الإستلام.

5- الدعوة لشمول المزارعين بالضمانين الصحي والإجتماعي، وملاحقة الدراسة التي قدمتها النقابة السابقة بهذا الشأن.

النقابة الحالية ودورها الفعلي

في العام 1993 حين أخذت الوصاية السورية قرارا بالقضاء على الحركة النقابية بما فيها الإتحاد العمالي العام وإستحداث نقابات وإتحادات مزوَّرة ومزيَّفة التمثيل والأهداف.كان نصيب نقابة مزارعي التبغ في الجنوب الأول في تنفيذ هذه السياسة، أن النقابة خاضت صراعاً كبيراً  في مواجهة محاولات وزير العمل  مصادرة قرار النقابة ووضع اليد عليها، وقد استندت النقابة في معركتها إلى دعم المزارعين والتفافهم حولها، وكان تعداد المنتسبين لها 2750 مزارعا، أكثرهم من النشطاء. وقد تداعوا  في حينه إلى اجتماع حاشد في النبطية تجاوز عدد المشاركين فيه ال500 مزارع  اعلنوا خلاله رفضعهم لقرار وزير العمل السيد عبدالله الامين ومن وراءه من السلطة. وهو القرار الذي قضى بحل النقابة القائمة والترخيص لنقابة جديدة مجلسها الإداري من حركة أمل والمقربين من النظام السوري. وهكذا أصحبت الريجي والنقابة في مقلب واحد ولجهة سياسية واحدة. وهذه النقابة لا هم لها سوى إرضاء الجهة السياسية التي أتت بها، وليس للدفاع عن مصالح المزارعين. وخسر بذلك المزارعون كل المكاسب التي تحققت بنضالهم . الآن لا أحد يعرف كم منتسبا للنقابة القائمة التي لا تقوم بأي تحرك بإتجاه إنصاف المزارعين، سوى أنها تدبج بيانات التأييد لما يصدر عن إدارة الريجي وتمتدح الجهة السياسية المهيمنة، للتغطية على  ادوار السمسرة التي يقوم بها   بعض أعضائها من خلال شراء التبغ الفائض من إنتاج صغار المزارعين بأسعار بخسة وبيعه للريجي بأسعار مرتفعة جداً.

بعض من تاريخ الريجي

تأسست شركة الريجي من قبل الفرنسيين في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي لحاجة الإنتداب لمادة التبغ اللبناني التي تعتبر الأكثر جودة في بلدان البحر المتوسط. وفي سياق الصناعة التبغية الناشئة في فرنسا يومذاك. وبقيت شركة الريجي الإحتكارية للفرنسيين حتى الخمسينيات، وبعدها حصلت  الدولة اللبنانية على أسهم منها. في البدء قام الفرنسيون بتوزيع تراخيص الزراعة لعدد قليل من المزارعين، على أن النصيب الأكبر كان من حصة الإقطاع السياسي، ومنهم من غير الجنوبيين (آل سلام وصبري حمادة). في أوائل السيتينات تحولت الريجي إلى شركة لبنانية بطابعها الإحتكاري، إذ لا يسمح ببيع محاصيل التبغ إلا لها. وفي العهد الشهابي أوائل الستينيات تمَّ التوسع بإعطاء تراخيص للمزارعين الذين يملكون أراضٍ صالحة للزراعة. مع ذلك بقي الألاف من المزارعين الفقراء من دون رخص أو حصلوا على  رخص ضئيلة المساحة. ما يدفعهم إلى  استئجار رخض  من الإقطاع السياسي عبر المفاتيح الانتخابية بأسعار باهظة تنوء العائلات الفقيرة عن سداد أجرة الضمان وإستئجار الأرض وباقي الأكلاف في أوضاع صعبة للغاية.

بقيت سطوة الإقطاع السياسي طاغية وبحكم علاقته بشركة الريجي، وفي ظل “تبادل الخدمات والمصالح”  كانت تجري عملية التلاعب بكميات الإنتاج وتحديد الأسعار وتمييزها لصالح المحسوبين على الزعامات السياسية، مقابل الحماية للريجي من المزارعين، و قد شكلت الأسعار الزهيدة للفقراء وسيلة الاستغلال الأساسية لهم.

حدثت أول إنتفاضة للمزارعين عام 1936 أيام الإنتداب الفرنسي وكان من أبرز من قادتها موسى الزين شرارة من بنت جبيل مع عدد من النشطاء والوطنيين المستنيرين أنذاك، إلا أنها قُمعت بشدة. مع تطور الحياة الإقتصادية والإجتماعية تحولت هذه الزراعة إلى العامل الإقتصادي الأول في حياة المزارعين الجنوبيين بعد أن تدهورت الزراعات البعلية الأخرى كالحبوب على أنواعها لمردودها الضئيل. حتى إن مزارعين اقتلعوا ما لديهم من زيتون وتين وعنب لإستعمال الأراضي لزراعة التبغ، التي أصبحت الزراعة الوحيدة شبه رأسمالية التي يشتغل بها كل أفراد الأسرة.

نضال المزارعين والأحزاب التقدمية

مع بروز دور الأحزاب التقدمية واليسارية وتنامي الوعي السياسي والإجتماعي في الجنوب أصبحت قضايا الزراعة والمزارعين بنداً رئيسياً في النضال ضد العسف والإستغلال الذي تعاني منه جموع المزارعين، ولمواجهة هيمنة الزعامات السياسية على مستقبل تطور الزراعة وتجاهل حقوق  المزارعين. في بداية الستينيات عقد مؤتمر للمزراعين في بلدة عيتا الجبل، ورفعوا الصوت بمطالبهم المحقة. وفي العام 1968 حصلت إنتفاضة في بلدة عيترون تضامن معها نشطاء المزارعين في باقي القرى، وحصلت مواجهة مع قوى الأمن الداخلي. وسبب هذه الإنتفاضة كان منع موظفي الريجي من إقتلاع المزروعات الفائضة عما هو مسموح لهم كإنتاج، إذ كانت مهمة هؤلاء الموظفين التحديد سلفا للمساحة المسموح بزراعتها، وبالتالي  تحديد كمية الإنتاج قبل إنتهاء القطاف. في العام 1973 ومع إزدياد الوعي والنشاط النضالي بين المزارعين وزيادة وزن الأحزاب التقدمية والشخصيات المستقلة المستنيرة حصلت إنتفاضة في النبطية بمشاركة شعبية جنوبية. وقد إعتصم المزارعون لخمسة عشر يوماً أمام حسينية النبطية رافعين المطالب التالية:

  1. إعطاء المزارعين أسعارا تتناسب مع أتعابهم وكلفة الإنتاج، على أن يرتفع أساس السعر أي البريم.
  2. إلغاء ما يسمى “بعديم النفع” الذي كانت تقتطعه الريجي أثناء إستلام المحاصيل، أي حسم ما بين 4 إلى 6 كيلوغرام عن كل 100 كيلوغرام من دون ثمن وهذه سرقة مكشوفة.
  3. كف يد الزعامات السياسية عن التلاعب والإحتيال بالأسعار والإنتاج.
  4. مساعدة المزارعين بالإرشاد الزراعي وتأمين الأدوية اللازمة لمكافحة الأمراض التي تصيب المواسم والمشاتل.
  5. شمول المزارعين بالضمانين الصحي والإجتماعي لأن شركة الريجي تعتبر بمثابة رب عمل للمزارعين.

جوبهت هذه الإنتفاضة والإعتصام بقمع شديد مع رفض من قبل السلطة والريجي تحقيق أي مطلب مرفوع.  كما أمر رئيس الحكومة يومها صائب سلام بصفته وزيراً للداخلية قوى الأمن بفتح النار على المعتصمين، وإستشهد جرَّاء ذلك مزارعين إثنين من حبوش وكفرتبنيت. وبعد هذا الحادث تداعت الأحزاب والشخصيات الوطنية وإتحاد نقابات العمال والمستخدمين في صيدا لإجتماع عام لنقاش ما حصل وتفويت الفرصة على الريجي والسلطة. وبنتيجة النقاش تم التوصل إلى أهمية تأسيس نقابة لمزارعي التبغ في الجنوب تتبنى مطالبهم وتعمل على تحقيقها، وتناضل على صعيد توحيدهم ببرنامج مطلبي واضح وواقعي. ترافق ذلك مع دعوة الأحزاب الوطنية في بيروت وجميع المناطق إلى التعبير عن وقوفهم بجانب المزارعين ورفضا لسلوك السلطة. وقد إجتاحت التظاهرات غالبية المدن اللبنانية من بنت جبيل حتى طرابلس وكانت الأكبر في العاصمة. إنبثقت النقابة الوليدة من خلال حراك قاعدي جدي طيلة أكثر من شهرين. وعقدت الإجتماعات في كل الأقضية قرية قرية، وتم إنتخاب المندوبين في الحسينيات والبيوت بإجتماعات حاشدة. وتشكلت لجنة التنسيق بين الأقضية، وتوجت بإجتماع حاشد للمندوبين في مقر إتحاد نقابات الجنوب في صيدا. ناقش المجتمعون الوثيقة التي أجمع عليها  المزارعون جميعاً. و بعد اقرار مشروع  النظام الداخلي للنقابة، تمَّ إنتخاب 27 عضواَ في اللجنة التأسيسية و 12 عضواً في المكتب التنفيذي وتوزعت المسؤوليات بينهم. وبعدها قامت اللجنة التأسيسية بتشكيل لجان نقابية في 105 قرى في الجنوب. إستشعر الإقطاع السياسي المخاطر فقام على الفور كامل الأسعد بتأسيس نقابتين واحدة في بنت جبيل وثانية في النبطية.كما قام كاظم الخليل بتأسيس نقابة في صور، وقد حصلوا فوراً على التراخيص للنقابات. بعدها إستقال العدد الأكبر من أعضاء تلك النقابات وتوجه  عدد كبير منهم للإنتساب لنقابة الجنوب والتي لم تكن قد حصلت بعد على ترخيص.

Leave a Comment