سياسة

أهالي غزة ضحية “مصائد الموت” الأميركية – الإسرائيلية أحكام نافذة بالإعدام دون محاكمات على الجوعى في القطاع

زهير هواري

بيروت 30 حزيران 2025 ـ بيروت الحرية

تحتاج “مصائد الموت” في قطاع غزة إلى شرح أكثر مما يتوافر من معطيات في وسائل الاعلام حتى الآن عبر التصريحات والشروحات التي تولتها هيئات وشخصيات أممية ودولية. يمكن وصف هذه المصائد بالممارسات التي يلجأ إليها الصيادون عندما ينثرون الحبوب والطعام في الأماكن التي تقصدها الطيور والحيوانات البرية والاسماك. وعندما تتجمع هذه للحصول على قوتها يجري قنصها باطلاق النار عليها، أو تجميع الشباك بخيوطها، حيث يقع عشرات ومئات الأحياء منها في فخ تأمين الطعام للوقاية من الجوع، الذي دفعها لمحاولة الحصول على ما يقيم أودها. بعد وقوعها في قبضة الشباك يختار الصيادون واحدا من طرق متعددة لغنائمهم. فهم مخيرون بين التقاطها وذبحها واحدا وراء واحد أو تركها تنفق على مهل، أو الحفاظ عليها حية ووضعها في اقفاص ونقلها إلى الاسواق حيث يتم بيعها للـ “هواة” من الراغبين. إذن هذه الكائنات مخيرة بين أمرين أحلاهما مر. فهي بين نار فقدان حياتها أو فقدان حريتها وكلتاهما متشابهين. بالطبع الطرق التي يتم اعتمادها لأسر الطيور والحيوانات البرية، أو قتلها تعد بالعشرات، ولا تختصر بالشكلين اللذين تحدثنا عنهما.

حصار وحرمان من العيش ومصادره

لنقارن بين ما أشرنا إليه قبلا مع ما يجري في قطاع غزة. ولكن قبل ذلك يجب أن نمهد بالتوقف عند مسرح الجريمة – حال الحصار الذي يعاني منه القطاع. وهو حصار وإن كان عمره سنوات وعقود إلا أنه بعد هجوم حماس منذ تشرين الأول في العام 2023 بات خانقا. ولا سيما وأن إسرائيل تتحكم بالمعابر التي تربط القطاع مع مصر وبالداخل الإسرائيلي، الذي قررت سلطة نتنياهو وسموتريتش وبن غفير وأمثالهم استعمال التجويع كأسلوب من أساليب التهجير من القطاع. علما أن هناك من السياسيين الإسرائيليين من اقترح اطلاق قنبلة نووية للتخلص من سكان القطاع مرة واحدة وإلى الأبد. وبالأصل فالقطاع بمساحته المحدودة ومقدراته البسيطة يعتاش على المواد الغذائية والأدوية والمحروقات وسائر المستلزمات المستوردة التي تنقلها الشاحنات من المرافيء الاسرائيلية. يوميا كانت مئات الشاحنات ( تتراوح عددا بين 500 و600) تنقل للقطاع حاجاته الضرورية . وهو ما انتهى بعد حرب أكتوبر واقتصر في أفضل الأحوال على عدد قد يتجاوز عدد أصابع اليدين بقليل. أكثر من ذلك، ففي الوقت الذي تناقص عددها إلى العشرات جرى بالتوازي تدمير المقومات الداخلية الهزيلة أصلا لمصادر العيش من زراعة وصيد اسماك وتربية دواجن وحرف بسيطة وما شابه. وهكذا كان الغزيون يعيشون موتهم البطيء صباح مساء. تارة نتيجة فقدان حليب الأطفال أو نقص المواد الغذائية أو الأدوية، وكل ما يدخل في ضرورات العيش. وطورا بأشكال متعددة، تجمع بين القصف الجوي والبري والبحري الذي لم يستثن مدينة أو مخيما أو قرية، والموت البطيء بفعل الجوع والمرض والأزمات النفسية والأمنية. هذا ولم نتحدث عن رحلات التعذيب اليومية أو الأسبوعية التي جعلتهم أشبه بمكوك الحياكة، حاملين بقايا أمتعتهم، وهم يتنقلون من الشمال إلى الوسط والجنوب أو من الأخير في رحلة معاكسة. حيث يجرَّون أقدامهم المتعبة وهم يسيرون وراء حيوانات النقل المنهكة في رحلات ملحمية لا تنتهي لكثرة ما اجتازت تلك الطرقات الرملية.

شيطنة ومنع المساعدات الأممية

بعد هذه المقدمة لنرى ما يحدث راهنا للمواطنين الغزيين. خلال الأشهر والسنوات المنصرمة عملت كل من إسرائيل والولايات المتحدة وبتواطؤ غربي إلى حد ما على القضاء على كل المؤسسات الأممية العاملة في مجال إغاثة اللاجئين الفلسطينيين خصوصا، وسط محنة العيش في ظل ظروف القطاع القاهرة. كانت البداية من نصيب وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين – الاونروا. وخلاله جرى تسليط الحملات الإعلامية والاتهامات عليها وشيطنتها في الاعلام وسائر المحافل الدولية والاقليمية، ثم اتبع ذلك بتدمير مقارها من أي نوع كانت: تعليمية، صحية، اجتماعية، مخازن ومستودعات أغذية وأدوية وما شابه من ضرورات تأمين مقومات الحياة. ولم تسلم هذه المقار بغرفها وساحاتها من التصويب المقصود عليها فسقط مئات وألوف الفلسطينيين الذين لجأوا إليها للحماية، أو من العاملين في مرافقها المتعددة. وبعدها تلاحقت عمليات الاجتثاث وطالت كل المنظمات الدولية التي درجت على تقديم ضرورات البقاء المنقذة لحياة المحاصرين. مَنْ من هذه المؤسسات لم يقتنع بالمغادرة جرى قتله بدم بارد وسط مذبحة القتل الكبرى المندلعة يوميا. وهكذا مُنعت المساعدات أن تصل إلى القطاع، بينما كانت الشاحنات تتكدس تحت اشراف الجيش والقوى الأمنية الاسرائيلية ليجري تقطير وصولها إلى محتاجيها الذين يعانون الجوع الشامل. أو تعرضها للتلف بفعل الحرارة والوقت. وبعدها جرى حصر المساعدات في هيئة واحدة تسمى “مراكز المساعدات الأميركية – الإسرائيلية الإنسانية” وهذه المراكز “الإنسانية ” هي التي تسمى بـ “مصائد الموت”، من جانب المنظمات الدولية والأهالي. نتيجة ذلك تصاعدت حال الجوع التي شاهد العالم على مدى أشهر متلاحقة صورها على أجهزة التلفزة وشملت وسائل التواصل الاجتماعي. حيث كانت حشود تقدر بالألوف وعشرات الألوف يوميا من الأطفال والنساء، يحملون الطناجر والأوعية لملأها بما يتوافر في تلك المطابخ انقاذا لحياتهم وحياة أبنائهم وأخوتهم المهددة بالموت. بعد تحقيق إسرائيل وأميركا “الإنجازات” على صعيد مؤسسات الإغاثة جرى حصر توزيع الأغذية بهذه المراكز دون سواها. في الوقت نفسه تمت عملية تقليص كمية المساعدات حتى الحدود الدنيا. ومعها قامت إسرائيل بتشكيل مجموعات مسلحة تطلق النار على المواطنين المندفعين بالألوف وراء شاحنات الطحين وما شابهها لتأمين الحصول على الحد الأدنى من سد الرمق إلى رغيف الخبز.

مقتولون في جميع الحالات

يصف منسق عمليات الطوارئ في منظمة “أطباء بلا حدود” في غزة أيتور زابالخوغياسكوا، “مواقع التوزيع الأربعة، وكلها في مناطق تسيطر عليها القوات الإسرائيلية بشكل كامل بعد نزوح سكانها قسراً، بأن حجم كل منها يبلغ حجم ملعب كرة قدم، وهي محاطة بنقاط مراقبة وسواتر ترابية وأسلاك شائكة. أما مدخلها المسوّر فلا يسمح إلا بنقطة وصول واحدة”.

ثم يصل إلى بيت القصيد فيقول: “إذا وصل الناس مبكراً واقتربوا من نقاط التفتيش، يُطلق الجنود عليهم النار. إذا وصلوا في الوقت المحدد وكان هناك عدد كبير جداً من الأشخاص، وقفزوا فوق السواتر والأسلاك الشائكة، يُطلقون عليهم النار. إذا وصلوا متأخرين، فلا ينبغي أن يكونوا هنا لأنها تعد منطقة تمَّ أخلاؤها، فيُطلق عليهم النار كذلك”. أي أنه أيا كانت حال وصولهم قبل وخلال وبعد الساعات المحددة، يتعرضون للقتل عبر اصطيادهم من قبل قوات الاحتلال. المنظمة نفسها أتهمت المؤسسة هذه بالتسبب بالمجازر وطالبت بوقف عملها. ورأت أن هذه المؤسسة صُمِّمت لإهانة الفلسطينيين بإجبارهم على الاختيار بين الجوع أو المخاطرة بحياتهم من أجل الحصول على الحد الأدنى من الاحتياجات”.”. وحذرت المنظمة من أن “هذه الفوضى تمنع النساء والأطفال، والمسنين، وذوي الإعاقة، من الوصول إلى المساعدات الإنسانية”.

غوتيريش: أحكام بالاعدام

أما الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش فقد نددا بالنظام الجديد لتوزيع المساعدة الإنسانية في القطاع، حيث: “يقتل الناس لمجرد محاولتهم إطعام عائلاتهم وأنفسهم. ولا ينبغي على الإطلاق أن يكون البحث عن الطعام بمثابة حكم بالإعدام”. وأوضح أن إسرائيل بصفتها قوة محتلة مطالبة بالموافقة على وصول المساعدات إلى غزة وتسهيلها. وقال: “حان الوقت لوقف إطلاق نار فوري بغزة والإفراج عن جميع الرهائن، ووصول كامل وآمن ومستدام للمساعدات”.

وتابع قائلاً: “دعونا نوصل الإمدادات المنقذة للحياة إلى غزة. يجب أن ندرك أن حل المشكلة في النهاية هو حل سياسي”، لافتاً إلى أن “العمليات الإنسانية لا تزال تتعرض للعرقلة، وموظفو الإغاثة أنفسهم يعانون من الجوع”. وختم الأمين العام بالتأكيد على أنه “يجب تمهيد الطريق لحل الدولتين في الشرق الأوسط”.

لنعد إلى ما بدأنا به وهو مصطلح مصائد الموت، بما هو موت وقتل الطيور والحيوانات البرية واللاجئين الفلسطينيين في قطاع غزة. والواقع الذي يجب أن نتذكره أن ما تقوم به كل من اميركا وإسرائيل في القطاع هو بعض مما تفتقت عنه العقلية الاستعمارية والعنصرية الصهيونية – الأميركية، وهي تمارس، أو تشرف على عمليات الإبادة التي يتعرض لها أبناء القطاع، والتي وصل عدد ضحاياها بين قتلى وجرحى إلى حوالي مائتي ألف مواطن إن لم يكن أكثر مما هو معلن. أما العمران في القطاع فقد باتت نسبة الدمار كاسحة وشبه شاملة وتضم كل المرافق والمؤسسات العامة والممتلكات الخاصة والبنى التحتية وما شابه من مقدرات ومقومات الحياة البشرية.

عدَّاد حصيلة المصائد يوميا

أما على الصعيد السياسي فتشير بعض المصادر إلى عمل ترامب وفريقه على سيناريوهين، الأول منهما يقضي بالتوصل إلى اتفاق نهائي للحرب على غزة خلال أسبوعين أو أكثر أو أقل بقليل. مقابل قبول “حماس” بنزع سلاحها وإبعاد عناصرها وقياداتها من القطاع، إضافة إلى الخروج النهائي من اليوم التالي لغزة. وأما السيناريو الثاني، فهو تخفيض مستوى الحرب إلى أدنى مستوياتها، وتحويلها إلى مجرد عمليات محددة، وبلا قتل جماعي، وبما يشمل إدخال مساعدات للسكان. لكن كلا السيناريوهين ينطلق من افتراضات لا حظ لها من النجاح على أرض الواقع، كما اثبتت عشرات نسخ المشاريع السابقة التي تهاوت أمام قرار نتنياهو – ترامب.

وخلال الإثني عشر يوما التي نشب فيها القتال بين ايران وإسرائيل وصل عدد الضحايا في اليوم الواحد إلى ما يتراوح بين 80 و 130 قتيلا، يضاف إليهم مئات الجرحى. بالطبع أفادت إسرائيل من توجيه العالم أنظاره نحو حربها مع ايران، وما تشهده من أعمال القصف والغارات الجوية والصاروخية المتبادلة ومضاعفات ذلك على الصعيد السياسي وأمن السرق الأوسط برمته. لذلك مارست بطشها مطمئنة أنها ترتكب أفعالها دون حد أدنى من المساءلة الإعلامية والسياسية حتى. وعليه فقد سجلت “مصائد الموت”، خلال شهر واحد فقط، أي منذ إنشاء مراكز المساعدات الأميركية – الاسرائيلية، استشهاد حوالي 600 مواطن، وإصابة 4066 آخرين وعشرات المفقودين. بالطبع هناك ما يتجاوزها ويطال المخيمات والمدن والقرى والخيام.

الأمعاء الخاوية مصطلح قديم جرى استعماله للإشارة إلى معاناة الأسرى من الجنود بين الجيوش المتحاربة في معسكرات الاعتقال، ثم عممه البعض ليطال الفئات المهمشة والهشة من الفقراء والأقليات المضطهدة والعاطلين عن العمل الذين يعتاشون على دخل يتراوح بين دولار و3 دولارات. اسرائيل تفوقت بفاشيتها على كل ما عرفته الحروب والأنظمة الظالمة عندما جعلت بالجملة من النساء والاطفال والشيوخ والنساء، وكل من يحتاج إلى الطعام للبقاء على قيد الحياة مجرد ضحايا لـ “مصائد الموت”. و هو ما لم تشهد البشرية مثيلا له عندما جعلت من الغزيين برمتهم مجرد قرابين تحظى ليس بغطاء أميركي فقط، بل بثناء على ما تستبيحه من حياة البشر في أي الأمكنة التي تصل إليها عمليات حصارها القاتلة، أو اسلحتها الفتاكة. هل هناك تفسير آخر لثناء ترمب على نتنياهو؟