سياسة مجتمع

 أزمة اليسار بين تجاربه وتحديات بناء الدولة*

زكـي طـه

يطرح العنوان واحدة من أعقد الإشكاليات، التي يواجهها لبنان، كياناً وطنياً ومجتمعاً أهلياً، ودولة متعثرة. والامر مرده أنه منذ إعلان دولة لبنان الكبير، وبالنظر لما هو موروث من انقسامات اهلية، فقد ارتبطت أزماته  الداخلية بالتحولات الاقليمية والدولية. من الاستعمار ثم الانتداب الفرنسي، إلى الصراع العربي – الإسرائيلي، وصولاً إلى الحروب الباردة والتحولات الكبرى التي عاشها العالم.  ولذلك  كان تاريخ لبنان الحديث مسلسلات من التحديات والأزمات والنزاعات،  التي تداخلت فيها الطموحات والأحلام مع الانكسارات والخيبات. واخطرها  ما يواجهه اليوم في ظل السيطرة الاميركية  والاحتلال الاسرائيلي من مخاطر تهدد مصيره وتحول دون بناء الدولة الحديثة.

هيمنة الطوائف والاستقواء بالخارج

باستطاعتنا رصد تبدلات مواقع الطوائف واصطفافات قواها منذ تاسيس الكيان: من المارونية السياسية التي امتلكت شروط الهيمنة في الداخل والعلاقات مع الخارج، إلى السنية السياسية وطموحاتها في المشاركة  تحت راية العروبة أو بقوة المال الوافد والدعم العربي والدولي بعد الطائف، وصولاً إلى الشيعية السياسية التي استخدمت السلاح تحت راية مقاومة إسرائيل لفرض هيمنتها ورهن البلد لسياسات النظام الإيراني، الذي أدار حروب “مساندة غزة” التي انتهت بكوارث مدمرة للبلدان التي فرضت عليها وأولها لبنان. لم تكن  هذه التحولات مجرد تبدلات سياسية. لأنها أدت إلى تفكك المجتمع وتسعير العصبيات الطائفية والفئوية، مقابل اضعاف قدرة مؤسسات الدولة على فرض القانون وتنظيم العلاقة بين المواطنين..

التجارب الاشتراكية تحت راية الماركسية

لقد اخترت هذا التمهيد مدخلاً لتناول  أزمة اليسار  وتجاربه بالعلاقة مع اشكاليات وقضايا  البلد.  ولا تقرا الازمة بمعزل عن المصادر  المنطلقات الفكرية والسياسية التي شكلت مستندات التجارب. ولذلك أعود إلى الأصل، عندما كانت الحركة الاشتراكية جوابًا على الاستغلال والظلم الاجتماعي في أوروبا في منتصف القرن التاسع عشر. وفي إطارها ظهرت الماركسية كمشروع يرى في الاقتصاد العامل المقرر لحركة التاريخ، وفي دكتاتورية الطبقة العاملة مخلّصاً للبشرية على طريق بناء الشيوعية باعتبارها حتمية تاريخية، أما الديمقراطية فقد صنفتها حيلة برجوازية. كانت الماركسية مشروعًا مطلقًا للتغيير، اجتاز اختبارات كثيرة على امتداد قرن ونصف، من الفكرة إلى الحركة، إلى الثورة، فالدولة. ومع اللينينية في روسيا، برزت نظرية الحزب الطليعي الذي يختزل الطبقة العاملة ويحتكر وعيها ودورها، ويحتكر الحق في ممارسة العنف وقيادة الثورة لتحقيق الاشتراكية ثم الشيوعية.

لكن نتائج تلك التجارب لم حكم لصالح  النظرية، بقدر ما خالفت مقولاتها وتوقعاتها.  والمحصلة إعاقة التطور التدريجي للمجتمعات التي حكمتها، وأزمة فكرية عميقة لا تزال تعصف بقوى اليسار. وهي المطالبة الآن بتجديد المشروع الاشتراكي  من مادة تجديد فهم أزمة الرأسمالية كنظام اقتصادي في واقعها الراهن أولاً. وثانيًا، بتحديد أوجه أزمة الديمقراطية المتحققة على الصعيد السياسي في عالم اليوم. وفي كليهما يكمن الأصل المستمر لخيار العدالة الاجتماعية.

اليسار اللبناني بين فشل تجاربه وأزمته

وفي امتداد تلك الحركة، استلهمت قوى اليسار في لبنان توجهات الثورات الاشتراكية والتجارب التحررية في العالم، من روسيا إلى الصين وفيتنام وسواها. وعلى أساسها صاغت برامج التغيير الثوري في لبنان والمنطقة. وعلى رافعة الكفاح المسلح لتحرير فلسطين علت رايات  العنف الثوري  وشعارات التحرير والتحرر الوطني والقومي.

الثابت أن قوى اليسار في لبنان استهانت  بالكيان  وبالدور الاقتصادي للبنان.  ولم تقم وزناً للانقسامات الأهلية الموروثة حول هوية الكيان وموقعه، ولم تأخذ بالحسبان خطورة علاقات الطوائف بالخارج كمستند لحماية الحقوق وتقاسم السلطة. ولذلك استسهل  اليسار تحميل لبنان اعباء النضال الفلسطيني المسلح في ظل الانقسام ونتج عن ذلك  تصنيفات أيديولوجية للطوائف: هذه الطائفة يمين وتلك يسار، هذه وطنية وعروبية وتلك انعزالية وفاشية. وبذلك وقع اليسار في فخ  الطائفية، خصوصًا عندما توسل العنف طريقًا للتغيير، واستسهل الاستقواء بالسلاح الفلسطيني.

خاض اليسار غمار الحرب الأهلية رافعًا شعار إصلاح النظام وإلغاء الطائفية السياسية، وانتهت المحاولة بتكريس نظام المحاصصة الطائفية. والأخطر كان تبديد ما تراكم من تحديث للمجتمع اللبناني من تاسيس الكيان،. والنتيجة الاطاحة بالحركة الديمقراطية التعددية في ميادين السياسة والثقافة،  وتهميش الحركة الشعبية الاجتماعية والمطلبية والنقابية العابرة للطوائف والمناطق. والأشد خطورة تحوّل لبنان ساحة مفتوحة للنزاعات الداخلية وللتدخلات الخارجية الدولية والإقليمية، بكل ما تحشده من مصالح متناقضة.

والثابت أن محاولة اليسار الإصلاحية لم تنه الهيمنة الطائفية، بقدر ما ساهمت في ولادة ردائف طائفية متنازعة من كل الضفاف. وعليه أصبح لبنان أسير مسلسل مفتوح من النزاعات التي تعيد إنتاج الانقسامات وتسعر الخلافات بين مكونات الاجتماع اللبناني، تحت مظلة الخلاف حول الهوية وصيغة النظام وموقع لبنان في المنطقة، بالتزامن مع تراجع دور الدولة، وتعميق إشكاليات علاقات لبنان بدول الجوار وصولًا إلى انهيار الاقتصاد وتعميم الفوضى الكيانية والاهلية.

وإلى فشل التجربة الإصلاحية، يضاف تآكل دور اليسار في ميدان القضية الوطنية، لأن مقاومته الوطنية ضد الاحتلال الإسرائيلي صيف 1982، التي وُلدت من رحم مشاركته في الحرب الأهلية، ورغم إنجازاتها المهمة، إلا أنها فشلت في أن تكون قوة توحيدية، جراء تهميش دورها وقواها بسبب دينامية الحرب الأهلية والدورين السوري والإيراني. فأصبحت ذكرى انطلاقتها مناسبة احتفالية بديلاً عن  الدور المفقود لقوى اليسار سواء في ميدان القضية الوطنية، كما على على صعيد القضية الاجتماعية، والسبب  أساسه هامشية الموقع الاجتماعي الذي ارتدت إليه، مقابل تضخم وزن ودور أحزاب الطوائف  في النزاع على مصادرة الحياة السياسية وتقاسم السلطة.

وامام الواقع الصعب الذي أسر حياة اللبنانيين بقوة الأزمات المتناسلة  بقوة ممارسات وفساد وتسلط أحزاب الطوائف في ميادين السياسة والاقتصاد والاجتماع، دون رادع أخلاقي أو إنساني أو سياسي.  تصاعدت حالة الاحتقان الاجتماعي وبلغت حد الاختناق، الذي  نتج عنه انتفاضة شعبية عفوية، شكلت صفحة مجيدة غير مسبوقة في تاريخ البلد. لأنها المرة الأولى التي يتشارك  فيها مئات الألوف من اللبنانيين طوعًا أهدافًا مشتركة عابرة للطوائف والمناطق تحت راية المطالبة بدولة القانون. أكدت الانتفاضة استعداد المشاركين فيها من كل الضفاف والشرائح الاجتماعية للدفاع عن حقوقها ومطالبها. لكن الانتفاضة العفوية كانت محكومة بما انتهت إليه من نتائج، جراء غياب القوى المعنية بقضاياها ومطالبها وشعاراتها، وفي طليعتها اليسار والقوى الديمقراطية والحركة النقابية.

تحديات إعادة بناء الدولة

والبارز في  أزمة اليسار هو الهروب من نتائج تجاربه وعدم المبادرة إلى مراجعتها كشرط أساسي لاستخلاص الدروس وتجديد الدور. إذ لا دور لليسار الآن خارج معركة بناء الدولة ومواجهة الاحتلال واستعادة السيادة. وبناء الدولة ليست قضية عادية أو مسألة للتأمل الفكري النظري، بل هي قضية وطنية بامتياز، تقع في صميم الأزمة اللبنانية المستمرة منذ نشوء الكيان الذي كان يُفترض أن يجسد سيادة الدولة ويصون مصالح وحقوق المواطنين. ووجود الدولة عامل مقرر لمصير البلد ومستقبله، ولتقدم المجتمع وتطوره. ما يعني أن اللبنانيين جميعًا، واليساريين منهم، هم الآن أمام تحديات كبرى وأسئلة صعبة، في مواجهة إشكاليات بنيوية معقدة متداخلة، يتشابك فيها الموروث من الخلافات والمتجدد بحكم الأزمات المتناسلة حول مختلف القضايا دون استثناء.

والوجه الاول للتحديات يتمثل بالدولة التي نطالب بإعادة بنائها، في ظل يقين بأن أحزاب الطوائف لن تبنيها. لأنها تبحث عن مبررات وجودها ومشاريعها، كي تتقاسم أدوار الدولة وصلاحيات مؤسساتها وغنائمها عبر نظام المحاصصة. وينسحب الأمر على الخارج الذي يمرر مصالحه من خلال هذه البنية الهشة. والوجه الآخر للتحديات، يتعلق بالقضية الوطنية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. والهروب المتمادي من البحث المسؤول وطنياً حول  سبل معالجة  قضية ما تبقى من سلاح  معطل وعاجز عن صد العدوان ومواجهة العدو. علماً أن الجدل العقيم حول المطالبة بنزع السلاح بالقوة تعادل خطورة رفض تسليمه طوعًا، وكلاهما يُسهّل لاسرائيل تغطية احتلالها وتبرير عدوانها، وتصعيد شروط انسحابها، مقابل بقاء لبنان عاجزًا عن بلورة خيار وطني جامع لاستعادة سيادته.

الدور المفقود لليسار

وللخروج من هذه الحلقة المقفلة، نعود إلى الأسئلة الصعبة: من هم أصحاب المصلحة في إعادة بناء الدولة؟ ومن الذي سيبنيها؟ وهل لليسار دور في بناء الدولة؟ وكيف نعرفه ونحدده؟ وأين هو هذا اليسار الذي نتحدث عنه؟ وكيف يمكن له أن يستعيد موقعه ليكون له دور؟

نعتقد أن الخطوة الأولى في مسيرة البحث عن الأجوبة تبدأ بقراءة الواقع اللبناني الراهن بكل تعقيداته السياسية، بما فيها الانهيار الاقتصادي والمالي، وتصدعات البنية المجتمعية وانقساماتها العمودية المتجذرة، والمضاعفات التدميرية للحرب التي فُرضت عليه والاحتلال القائم، وصولًا إلى استحقاقات البلد الوطنية المتشابكة والمتداخلة مع القضية الفلسطينية والمسألة السورية، في ظل واقع وأحكام السيطرة الأميركية على المنطقة والدور الإسرائيلي في إطارها.

والخطوة الثانية تتمثل في ترصيد حسابات قوى الاجتماع اللبناني، صاحبة المصلحة في وجود الدولة واستعادتها لدورها، والهدف تبيان مواقع ونقاط الارتكاز المجتمعية التي يمكن البناء عليها. وهنا يتجدد السؤال حول موقع قضايا الحريات الديمقراطية، وحاجة البلد إلى حركة معارضة ديمقراطية مستقلة من كل التيارات الفكرية والسياسية، اليسارية والليبرالية، التي لا تراهن على أحزاب الطوائف ولا ترتهن لسلطتها. لأن وجود هذه الحركة حاجة وضرورة وطنية لإعادة تعريف الوطنية الجامعة، لتمكين اللبنانيين من الخروج على آليات الانقسام الأهلي، وتبديد الالتباسات والهواجس الطائفية القائمة.

والخطوة الثالثة تتعلق بالبحث عن الحركة المطلبية وأدواتها النقابية بكل مكوناتها المهنية والقطاعية: ماذا بقي منها حيًا؟ وكيف تحولت إلى هياكل وعناوين تُستخدم للانتفاع وتغطية موبقات أحزاب السلطة وفسادها السياسي؟ ولماذا غابت عن ساحات انتفاضة تشرين؟ والبحث هنا هو المدخل لإعادة الاعتبار لها، آخذين بعين الاعتبار ما آلت إليه أوضاع البنية المجتمعية اللبنانية، والتطورات في ميادين الاقتصاد والإنتاج والتطور العلمي والتقني وإدارة المؤسسات وآليات السوق.

والخطوات الثلاث مترابطة ومتصلة  بمسار بناء الدولة باعتبارها المرجعية المسؤولة والجامعة لجميع فئات المجتمع وحقوقها ومطالبها المناطقية والمهنية. على خلاف أحزاب الطوائف التي تستبيح حقوق أكثرية اللبنانيين وتستهين بقضاياهم باسم حقوق طوائفهم. وإعادة الاعتبار للحركة المطلبية يشكل أحد أهم الأسلحة لمحاصرة ممارسات وتسلط تلك التنظيمات وتفكيك قواعدها،  لمصلحة اعادة الاعتبار لدور الدولة كمرجعية وطنية لجميع اللبنانيين، وأداة توحيد للمجتمع خارج القيد الطائفي.

وفي هذا السياق، تحضر القضايا التي تهم أكثرية اللبنانيين: من القضاء المستقل إلى الجامعة اللبنانية والتعليم الرسمي، إلى الضمان الاجتماعي، مرورًا بقضايا السكن والبطالة والبيئة، وحقوق الأساتذة والمعلمين والطلاب والعمال والموظفين، ومعها حقوق النازحين والمتضررين وإعادة الإعمار، وحقوق المودعين والمتقاعدين. وأهمية استحضار هذه الحقوق تكمن في أن أصحابها هم المعنيون بإعادة الاعتبار للدولة، وهم المطالبون بالانخراط في مسيرة بنائها، طريقًا لاستعادة حقوقهم وتحررهم من تسلط أحزاب الطوائف.

وفي هذا الميدان يقع دور اليساريين والديمقراطيين المستقلين، حزبيين وأفرادًا. والسؤال: هل بإمكانهم استعادة دورهم المفقود في مشروع بناء الدولة، بديلاً عن تدبيج البرامج والخطط والشعارات التي لا تجد من يأخذ بها أو يحملها؟ نحن أمام مهمة تحتل أولوية وطنية، شرطها الأول مراجعة تجارب  البلد واليسار في ضوء نتائجها، وشرطها الثاني تجديد انتساب قوى اليسار إلى أزمات البلد حيث هي، بعيدًا عن القوالب الجامدة والمقولات الفكرية المعلبة. لأن اليسار أولًا هو موقع اجتماعي قبل أن يكون نظريات.

الطريق الصعب لبناء دولة القانون والعدالة الاجتماعية

وما يزيد في صعوبة التحديات التي تواجه أكثرية اللبنانيين وقوى اليسار، أننا الآن في زمن السيطرة الأميركية والحرب الإسرائيلية المفتوحة، التي تعصف بأوضاع بلدان المنطقة وتمزق مجتمعاتها التي ارتدت إلى ما قبل التأسيس. وفي ظل المخاطر الزاحفة على لبنان، والتدخلات والضغوط وشروط الدعم الإقليمية والدولية، يحتدم الانقسام الطائفي، ويتفاقم الانهيار الاقتصادي والمالي. وإليهما تضاف النتائج التدميرية للحرب الإسرائيلية، وشروط العدو للانسحاب وإنهاء الاحتلال. فيما تستمر قوى السلطة في تقاذف المسؤولية وتبادل تهم التعطيل والتخوين، والاستقواء بالخارج الأميركي أو الإيراني.

وتكبر التحديات مع بقاء العهد والحكومة محاصرين بممارسات أحزاب السلطة، وبشروط وضغوط الجهات الخارجية، على النحو الذي يهدد بضياع فرصة إنقاذ البلد وبناء الدولة، وبإطالة أمد الاحتلال وتأخير استعادة السيادة الوطنية.

إن إقرار القوى اليسارية والديمقراطية، بفشل جميع تجاربها من مواقع الانقسام الأهلي وعبر الاستقواء بالخارج، هو الضمانة لعدم تكرار الأخطاء قبل الدخول في تجارب أكثر تقدمًا في مسيرة بناء الدولة وتقدم المجتمع، عبر مسار طويل المدى، معقد ومتعرج.

ولأننا لسنا أمام حلول سحرية تحقق ما نصبو إليه في لحظة خاطفة من الزمن، فإن الطريق الوحيد لبناء دولة القانون والعدالة الاجتماعية وسيادة الوطن، هو الشروع في تجديد النضال السياسي والاجتماعي، وإعلاء رايات المواطنة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات.

* مداخلة رئيس المكتب التنفيذي لمنظمة العمل اليساري الديمقراطي العلماني، التي ألقيت في ندوة زغرتا، بدعوة من محترف سميح زعتر بتاريخ 17 تشرين الاول 2025.