ثقافة

آينشتاين ووجهه الآخر غير الفيزيائي

عائدة خداج ابي فراج

لقد طغى لقب العالم الفيزيائي صاحب نظريّة النسبية على ألبيرت آينشتاين  (1879-1955) الإنسان صاحب الرؤية الحضارية، والتربوية، والمكافح من أجل السلام العالمي، والمعادي للتسلح والعسكرة، والداعي الى إلغاء قانون التجنيد الإجباري للشباب. قلة هم الذين تعرفوا الى آينشتاين المفكر، العاشق للفلسفة، والمتأثر بل المؤمن بفلسفة سبينوزا التوحيدية الحلولية، والمبادىء الكانطية الأخلاقية التي لا تستقيم  من دونها المجتمعات البشرية، والزاهد بالثروة والشهرة، والمتعالي على المناصب، كما يثبت رفضه لمنصب رئاسة الدولة العبرية. وهو القائل: “لم اكترث يوماً بالممتلكات والنجاح والشهرة والرفاه، فجميع هذه الطموحات محتقرة في نظري”.

لقد بحث آينشتاين عن الحقيقة المطلقة في المثال الأخلاقي المطلق،وفي القانون الطبيعي العلمي الأبدي. وقال أن قوانين الأخلاق هي الأساس في نظام المجتمع  وانسجام الكون. فالطبيعة بالنسبة إليه هي الكل بالكل، وانتماء الإنسان الى الكل يحرره من شرنقة الذات وسجنها. فالأنا هي الجحيم وليس الآخر. والحياة “هي نسيج عظيم والفرد خيط رفيع في هذا النسيج العجيب”، كما كان يقول. وهذا الايمان بوحدة الوجود والإنسجام الكوني جعله عاشقاً للموسيقى. وأعتبر، كما اعتبر كل من افلاطون وفيثاغورس من قبله، “أن الكون هو نظام موسيقي متناغم”.

وقد آمن آينشتاين أن الله لا يفاضل بين الشعوب، ولايوقع عهداً مع شعب دون سواه، ولايفرق بين شعوب الأرض، ولا يصطفي جماعة دون أخرى، وليس له شعب مختار، فيقول :”أنا يهودي، ولكنني لست من المختارين”.

ورأي آينشتاين هذا يخالف تماماً ما قاله الرّبّ إله بني اسرائيل لموسى :”إن سمعتم لصوتي وحفظتم عهدي تكونون لي خاصة من بين الشعوب…تطردون كل سكان الأرض من امامكم… تملكون الأرض وتسكنون فيها، لأنك انت شعب مقدس، الرَب الهك إياك. قد اختار الرّبّ لتكون له شعباً أخص من جميع الشعوب التي على وجه الأرض”.(التواراة- تثنية الأصحاح السابع)

وحين سيطرت النزعة القومية على أوروبا عشية الحرب العالمية الثانية، وتحكمت النازيّة بألمانيا، شنّ آينشتاين حرباً عليها، وقدّم طلباً لأسقاط جنسيته الألمانية، فما كان من النازيين إلاّ ان اقتحموا منزله وأحرقوا كتبه وجردوه من الجنسية الألمانية، واتهموه بالشيوعية. وهذا ما جعله يتمسك اكثر واكثر بآراء غاندي حول اللاعنف، واعتبره “الأكثر استنارة من جميع رجال السياسة، وعلينا أن نستلهم روحه…وأن لا نستخدم العنف في النضال من أجل قضايانا”. ويضيف قائلا:”إن القائد يستطيع أن يكسب ولاء الناس بتقديم مثال حي يجسد طريقة أخلاقية سامية، وليس بالمكر والخداع السياسيين”.

وبعد ما ترك آينشتاين ألمانيا توجه الى الولايات المتحدة الامريكية التي لم يكن يرغب يوماً بزيارتها، وحصل على الجنسية الامريكية في العام 1940. وكان يطلق عليها اسم “دولاريا” لشدة هوسها بالمال والسلطة. وفي مقابلة اجراها معه محمد حسنين هيكل عام 1951، قال إنه يخشى على امريكا من هستيريا القوة، ويدين هوسها بالقنابل النوويّة والقواعد العسكريّة. وفي امريكا انتابه شعور بالإغتراب بسبب التمييز ضد الأمريكيين السود، وشعر بالخجل من جنسيته الأمريكية، ووصف الأمريكين “بالسذجّ وبالجمهور القطيعي أو الدهماء”.

وقد دفعه استعمال القنبلتين النوويتين على اليابان،في آب من العام 1945 الى النضال من أجل السلام العالمي وأصدر البيانات ضدد التسلح النووي، مثقلا بالشعور بالذنب بسبب معادلاته الفيزيائية، وقال إنه “ساهم في فتح “صندوق باندورا “، وهو الصندوق الذي يحتوي على كل الشرور التي ستعاني منها البشرية، ويومها قال جملته الشهيرة ” woe is me  “. أي “أنا الكارثة”. بعدها تصدرت صورته غلاف مجلة ” النيوز ويك “، وكتب تحتها عبارة ” الرجل الذي بدأ  كل شيء “، وفي الخلفية وضعت صورة غيمة الفطر النووية وكتب عليها معادلته E=MC2 ، أي الطاقة تساوي الكتلة ضرب مربع سرعة الضوء.

اما بالنسبة للقضية الفلسطينية فكان يقول انه كان على اليهود “أن يأتوا الى فلسطين كأصدقاء للأمّة العربية الأقرب نسباً اليهم، على ان يأتوا مسلحين بدعم بريطاني. ويعتبر أن البريطانيين هم وراء الصدامات بين العرب و الهيود كي يسودوا الشعبين ويستأثروا بالسيطرة على المنطقة، قائلاً :إني لا افهم لماذا نحن بحاجة إلى دولة كهذه. إن الدولة القومية هي فكرة رديئة وقد عارضتها دائماً والذي دمر اوروبا هو القومية”.وقد صعب على آينشتاين العالم فهم السياسة الصهيونية في الشكل وفي المضمون ،واشتهر بقوله :” إن السياسة اصعب من الفيزياء”.وكان في الوقت عينه معادياً للمنظمتين الصهيونيتين الارهابيتين “شترن “و “الارغون”، ويصف مناحيم بيغن زعيم “الارغون بـ “الارهابي السفاح”و “الفاشي المصاب بمرض العنف ولا شفاء لأمثاله”. ولما عرض عليه بن غوريون رئاسة الدولة العبرية ، أجاب قائلاً:” ان قبول المنصب غير قابل للتبديل “، وذلك ” لأن السياسة لها اللحظة،أما المعادلة الفيزيائية فلها الأبدية”.

في العام 1955 اسدلت الستارة على حياة عالم شغل العالم بمعادلاته ونظرياته الفزيائية، ومفكر آمن بوحدة وجود وتكورالعالم، والقوانين الطبيعية الازلية، والقوانين الأخلاقية الناظمة للمجتمع، وقبل وفاته، رفض اجراء عملية جراحية قائلاً” :” إن الموت ديْن قديم ،ولا بد أن يُسدَّد …وقد حان وقت سداده”.

Leave a Comment